الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

حقيقة الفوز وأسبابه

منديل بن محمد آل قناعي الفقيه


الحمد لله الذي وفق من شاء للفوز بجنته وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما وأشهد أن محمدا عبده ورسوله القائل اللهم إني أسألك الفوز عند اللقاء اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الذين بشرهم ربهم بالفوز العظيم وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد أيها المسلمون: اتقوا الله واخشوه وأطيعوا أمره ولا تعصوه ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.

أيها المسلمون:كثيرا ما تطرق أسماعنا كلمة فاز، فوز، فيقال فاز فلان بجائزة وفاز فلان بسيارة وفاز فريق بكأس وأخر بميدالية وفاز فلان بالمركز الأول وفاز فريق على فريق بهدف أو أكثر وهكذا تطرق أسماعنا هذه الكلمة كثيرا فيما يتعلق بجوائز الدنيا وحظوظها وقليل من الناس من ينظر بعين بصيرته ويسافر بهمته إلى الفوز الأكبر الذي ليس بعده خسارة أبدا، ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ ﴿ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾.
إن الفوز بالدنيا وحظوظها فوز محفوف بالمكاره ومعرض للنقص والزوال والنسيان فالغنى يعقبه الفقر والقوة يتبعها الضعف والصحة يتبعها المرض والشباب يعقبه العجز والهرم بل الحياة نفسها لا تدوم فأي فوز هذا الذي يكون في الدنيا؟.

إن الفوز الحقيقي هو الفوز في الآخرة بدءاً بالموت وما يكون في القبر وسؤال الملكين وفي عرصات القيامة وعند الحشر والنشر والصراط وعند تطاير الصحف وأخذ الكتب بالإيمان, وتأملوا في حال ذلك الفائز حينما يأخذ الكتاب باليمين فيطير فرحاً مسروراً ينادي في الموقف ﴿ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ﴾ اقرءوا هذا الكتاب وهذه علامة فوزي وسعادتي فلقد كنت على يقين من مجيء هذا اليوم فعملت له وهذا هو الجزاء ﴿ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ وعلى الجانب الآخر يقف الخاسرون النادمون الذين غفلوا عن الفوز الحقيقي متحسرين على تفريطهم نادمين على تضيعهم ﴿يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ﴾ إنَّ الفوز حقاً في النجاة من النار ودخول الجنة دار الأبرار ﴿ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ﴾ وما أعظم الفرق بين أهل الجنة وأهل النار؟ ما أعظم الفرق بين أهل العذاب والجحيم وأهل النعيم المقيم؟ ما أعظم الفرق بين الناجين والهالكين؟ ما أعظم الفرق الفائزين والخاسرين؟ فأهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ويلعبون ويمرحون ويتلذذون ويتمتعون ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ وأهل النار فيها يعذبون ويحرقون ويهانون ويضربون ويصرخون ويجأرون ﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فهل يستويان؟ والجواب كلا ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.

أيها المسلمون: لعل النفوس قد اشتاقت إلى ذلك الفوز العظيم والنجاح الكبير ولربما تساءلت ما السبيل إلى هذا الفوز العظيم؟ وما أسباب هذا الفوز المبين؟ فأقول مجيباً على السؤال لقد أجاب عنه القرآن وبين أسباب الفوز وطرق النجاح وبين سبل الوصول إلى ذلك الفوز الكبير أجملها فيما يلي:
أولاً: الإيمان بالله فهو أساس الفوز والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
ثانياً: العمل الصالح إذ أنَّ الإيمان الحق يدفع صاحبه إلى صلاح العمل ﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ ﴿ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ فتأملوا أيها المسلمون كيف وصف الفوز في الآيات الثلاث في الأولى بالفوز المبين والثانية بالفوز الكبير وفي الثالثة بالفوز العظيم ليدل على كمال الفوز الأخروي المترتب على الإيمان والعمل الصالح.
ثالثاً: طاعة النبي صلى الله عليه وسلم والسير على هداه والحذر من مخالفة أمره وعدم الترسم بخطاه ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ ﴿و َمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
رابعاً: اقتفاء أثر الصحابة رضي الله عنهم واتباع سبيلهم ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
خامساً:ترك المعاصي وذلك أنَّ المعاصي تفسد القلب وتسقط العبد من عين الله وتورثه الذل والهوان وتعرضه لأنواع العقوبات في الدنيا والآخرة فالمعاصي تزيل النعم وتحل النقم وتمحق بركة العمر فليس للعبد فوز إلا بترك المعاصي ﴿ وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾.
سادساً: الصدق مع الله ومع الناس ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وقد أمر الله المؤمنين بأن يكونوا مع الصادقين ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ ووصفهم بالمتقين والمحسنين وجعل جزائهم تكفير سيئاتهم وإعطائهم ما يشاءون ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ * لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾.
سابعاً: الخوف من الله وعذابه فإنَّ ذلك يؤدي إلى ترك المعاصي وذلك أعظم الفوز ﴿قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ﴾ ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾.
ثامناً: تقوى الله فقد أخبر الله عن فوز المتقين بالجنة ونجاتهم من النار ﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ * يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ * لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وبشرهم بالفوز في الدنيا والآخرة فقال ﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وحقيقة التقوى أن يطاع فلا يعصى فيذكر فلا ينسى فيشكر فلا يكفر، حقيقتها فعل الأوامر وترك النواهي.
تاسعاً: الجهاد في سبيل الله الذي هو أفضل الأعمال فقد جعله الله تعالى من أعظم أسباب الفوز ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ وبين سبحانه أنَّ الجهاد من أعظم التجارة مع الله الموصلة إلى الفوز العظيم ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ عن ابن عَبَّاسٍ رضي الله عنه قال سمعت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يقول ﴿ عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ عَيْنٌ بَكَتْ من خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ الترمذي1639 وصححه الألباني في المشكاة 3829 وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم فضله ((من قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فُوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الْجَنَّةُ)) أحمد 22103أبو داوود 2541والترمذي 1650وابن ماجه 2792 وصححه الحاكم 2382وابن حبان 6418 عن معاذ بن جبل. وسئل صلى الله عليه وسلم عما يعدله فقال لا تستطيعونه فأعادوا عليه فقال في الثالثة (( مَثَلُ الْمُجَاهِدِ في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الْقَانِتِ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَفْتُرُ من صِيَامٍ ولا صَلَاةٍ حتى يَرْجِعَ الْمُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى )) رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه 1878. بعث الإمام المجاهد عبدالله ابن مبارك من طرسوس رسالة إلى العالم العابد الفضيل ابن عياض بمكة يقول فيها:" يا عابد الحرمين لو أبصـرتنا لعلمت أنـك بالعبادة تلعـب

من كان يخضب جيده بدموعه
فنحورنا بدمائنا تتخضب

أو كان يتعب خيله في باطل
فخيولنا يوم الصبيحة تتعب

ريح العبير لكم ونحن عبيرنا
وهج السنابك والغبار الأطيب

ولقد أتانا عن مقال نبينا
قول صحيح صادق لا يكذب

هذا كتاب الله ينطق بيننا
ليس الشهيد بميت لا يكذب
فلما قرأ الفضيل الرسالة بكى وذرفت عيناه بالدموع وقال صدق أبو عبدالرحمن ونصحني. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشانه وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة أما فاتقوا الله عباد الله وأطيعوه ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾.
أيها المسلمون: لا يزال الحديث موصولا عن أسباب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة. عاشراً: البعد عن طاعة شياطين الإنس والجن ومخالفتهم وإظهار العداوة لهم خاصة القرين والصاحب منهم ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ * قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ * فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ * قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ ﴾ قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسيره " يخبر الله تعالى عن أهل الجنة أنَّه أقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا وماذا كانوا يعانون فيها وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ومعاشرتهم في مجالسهم وهم جلوس على السرر , والخدم بين أيديهم يسعون ويجيئون بكل خير عظيم من مآكل ومشارب وملابس وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴾ قال مجاهد يعني شيطانا وقال العوفي عن ابن العباس هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا. ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس فإنَّ الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ويكون من الإنس فيقول كلاماً تسمعه الأذنان وكلاهما يتعاونان " والمقصود أنَّ المؤمن حين عصى القرين ولم يسلك سبيله ولم يتّبعه على كفره وضلاله وإنكاره للبعث كان ذلك سبباً في نجاته وفوزه بالجنة حيث النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول.
الحادي عشر: الصبر وفضله عظيم فهو من صفات الله تعالى ومن صفات أولي العزم من الرسل وقد أمر الله به وبين عاقبته فقال ﴿ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ ﴿ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ ﴾ ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ والصبر واجب بالإجماع وهو نصف الإيمان وقد بين تعالى أنَّه من أسباب الفوز ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ ﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا ﴾ ﴿ إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ وقد علق الله تعالى خيري الدنيا والآخرة على الصبر فقال ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ وأخبر سبحانه أنَّ الأخلاق العالية والأعمال الصالحة لا تنال إلى بالصبر ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ بل حتى النصر على الأعداء لا يكون إلَّا بالصبر ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ ﴾ وقال صلى الله عليه وسلم ((وأنَّ النَّصْرَ مع الصَّبْرِ)) المسند عن ابن عباس2804 وصححه الحاكم6304. والصبر أنواع ثلاثة: أولاً _ صبر على الطاعة وذلك لأنَّ الطاعات كثيرة ومتكررة فتشق على النفس فتصعب المحافظة عليها إلَّا بالصبر فكم من إنسان لازم المسجد وحافظ على الصلاة ثم نفذ صبره فهجر المسجد وقطع الصلاة؟ وكم من إنسان سلك طريق الالتزام ثم لمَّا قل صبره تغيَّر حاله فانتكس وعاد إلى حال شر من حاله الأولى؟ وكم من إنسان جالس الصالحين ولازمهم ثم لمَّا قل صبره هجرهم وذهب إلى أصدقاء السوء ولذا قال تعالى لنبيه ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا
ثانياً: صبر عن معصية الله ولا بد للمسلم منه لا سيما إذا انعقدت أسباب المعصية وقويت دواعيها وتأملوا في صبر يوسف عليه الصلاة والسلام حينما تبدَّت له الفواحش وقويت دواعيها ﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ﴾ لذلك قالت امرأة العزيز ﴿ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾.
ثالثاً: صبر على أقدار الله المؤلمة فإنَّ الدنيا دار ابتلاء ولذا قال تعالى ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال قال رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ((ما يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ وَالْمُؤْمِنَةِ في نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حتى يَلْقَى اللَّهَ وما عليه خَطِيئَةٌ)) الترمذي2399 وقال حسن صحيح وصححه الحاكم7879. عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((ما يُصِيبُ الْمُسْلِمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا هَمٍّ ولا حُزْنٍ ولا أَذًى ولا غَمٍّ حتى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلا كَفَّرَ الله بها من خَطَايَاهُ)) البخاري5318.
شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الأربعاء، 26 ديسمبر 2012 ' الساعة  5:00 م


 
Toggle Footer