الأربعاء، 26 ديسمبر 2012


آخر شهر رمضان وبداية شوال


الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن بن عبدالعزيز الدهيشي


الحمد لله الذي أتم إحسانه على المسنين وأكمل، وكفى بحسب تأييده من على كرمه عول، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنفرد بالعز والبقاء فلا ينقص ملكه ولا يتحول، له الأسماء الحسنى وله الصفات العلى وقد خاب من ألحد في أسمائه وعطل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أفضل نبي وأكرم مرسل، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن على سنته تبتل.. أما بعد:

أيها الناس، اتقوا الله تعالى وأطيعوه في السر والعلن ولا تعصوه، واعلموا أنكم ودعتم شهرًا كريمًا مباركًا، صمتم نهاره وقمتم ورداً من ليله، طاعة لله وتقربًا إليه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.

واعلموا- رحمكم الله- أن لكم عدوًا غادرًا خادعًا ماكرًا كان مأسورًا مهانًا في شهر رمضان المعظم، لا يقدر فيه على ما كان يقدر عليه من قبل، وقد رحل الشهر شاهدًا على المحسن بإحسانه وعلى المسيء بإساءته، وجاء الفطر وأطلق سراح هذا العدو المسلط "إبليس" وبدأت المعارك بينكم وبينه، فاحذروه، فإنه سيهجم عليكم بخيله ورجله في كل مكان، وسيحمل عليكم بكل سلاح هيأه لكم ليفتنكم عن دينكم ويكدر ما صفا لكم من الطاعات والقربات، ويفسد ما صلح من أعمالكم في شهر رمضان المعظم، فاحذروه- عباد الله- وجاهدوه بأقوى سلاح من حكم الله به ألا وهو المحافظة على فرائض الله وكثرة الاستغفار، واستعيذوا بالله من أثره بطاعة الله وذكره، وأضعفوا كيده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في بيوتكم وفي مساجدكم وأسواقكم ومكاتبكم وغيرها من مجتمعاتكم، قال الله جل وعلا: ﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأعراف: 200]؛ وقال جل وعلا ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201]؛ واحذروا الدنيا فإنها تخدع وتغر، وهي من الوسائل التي يستعين بها عدوكم اللدود على هلاككم، فقد جمع الله بين غرورها وغرور الشيطان في أكثر من آية من القرآن الكريم، فلا تخدعنكم بلذاتها ومطالبها عن طاعة مولاكم الذي أوجدها، فالحياة الخالية من الصلة بالله ورحمته ضنك مهما يكن فيها من سعة ومتاع، كما قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124]، والله- سبحانه- إنما جعل الحياة الطيبة والحسنى يوم القيامة لمن آمن به وعمل صالحًا، قال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97]، فالغني الشارد عن الله لا غبطة في ماله ولا في حاله لأنه مقطوع الصلة بالله- تعالى- وعبادته، ومن قطع صلته مع الله وأعرض عن ذكره قيض الله له شيطانًا مريدًا يعده ويمنيه ويؤزه إلى المعاصي أزًا، قالي تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [الزخرف: 36 ، 37]؛ فأي حياة وأي فلاح وأي عيش لمن تخلى عنه وليه ومولاه، وتولاه عدوه ومن يريد هلاكه، فإنه يعيش بين خوف وهدم وحزن وغم وألم، فيكون المال والولد في حقه شقاء لا سعادة وتعبًا لا راحة وعذابًا لا رحمة، قال تعالى: ﴿ فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55]، فالقلب لا يهدأ والعين لا تقر والنفس لا تطمئن إلا بإلهها ومعبودها الذي هو الحق، وكل معبود سواه باطلة، فمن قرت عينه بالله تعالى قرت به كل عين، ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه حسدًا على الدنيا وما فيها، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِي ﴾ [فاطر: 5 ، 6].

أيها الناس، إن المعاصي توهن القلب والبدن وتجلب النقم وتذهب بالغيرة على المحارم وعلى الدين وتجعل صاحبها من السفلة بعد أن كان مهيئًا ليكون من العلية، فإن الله خلق خلقه إلى قسمين علية وسفلة، وجعل عليين في الجنة مستقرًا للعلية، وجعل أسفل سافلين مستقرًا للسفلة، ويجعل أهل طاعته الأعلون في الدنيا والآخرة كما جعلهم أكرم خلقه عليه، وأهل معصيته أهون خلقه عليه، وجعل العزة للعلية من خلقه والذلة والصغار للسفلة من خلقه، كما ورد في مسجد الإمام أحمد- رحمه الله- عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (بعثت بالسيف بين الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له وجعل رزقي تحت ظل رمحي وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري)[1]. فكلما عمل العبد معصية في أيام حياته نزل بها درجة ولا يزال في نزول حتى يكون من الأسفلين، وكلما عمل طاعة ارتفعت درجته ولا يزال في ارتفاع حتى يكون من الأعلين، وقد يجتمع للعبد في أيام حياته الصعود من وجه والنزول من وجه، وأيهما كان أغلب عليه كان من أهله.

فاتقوا الله- عباد الله- وتوبوا إلى ربكم واستغفروه واحذروا عدوكم اللدود وأنفسكم الأمارة بالسوء ودنياكم الخداعة الغرارة، فإن عدوكم الشيطان يزين للإنسان فعل المعصية ويعده ويمنيه بالتوبة فينسيه الموت والعقوبة ويلوح له بسعة الرحمة الإلهية ليوقعه في الذنب مرة بعد أخرى فيضعف سيره إلى الله والدار الآخرة أو ينعدم، وقد نصب الحبائل وابتغى لكم الغوائل ومد حولكم الأشراك ونصب لكم الفخاخ في كل مكان فلا تطيعوا أمره ولا تتبعوا خطاه ولا توانوا عن مجاهدته مدة الحياة واعملوا صالحًا ينجيكم من عذاب الله يوم تبعثون واشكروا الله الذي هداكم للإسلام وبلغكم شهر رمضان وأعانكم على الصيام والقيام وبلغكم الختام فقد ذكر الله سبحانه هذه النعمة وطلب منكم مقابلتها بما تستحقه، قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 185]، فمن جملة نعم الله على عباده التوفيق لصيام شهر رمضان والإعانة عليه وعلى ما تيسر من القيام وتلاوة القرآن، فجدير بمن أسبغ الله عليه هذه النعم العظيمة التي لا يماثلها شيء من الأعمال والتي قال فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[2].

فجدير بمن وفقه الله لصيام شهر رمضان أن يتبعه بصيام ستة أيام من شهر شوال شكرًا لله- تعالى- على إكمال شهر رمضان واقتداء بالمصطفى - صلى الله عليه وسلم – وزيادة في الثواب، ففي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (من صام رمضان وأتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر)[3]، لأن الحسنة بعشر أمثالها، وصيام شهر رمضان عن صيام عشرة أشهر، وصيام ستة أيام من شوال يعدل صيام شهرين، فيكون بذلك قد صام السنة كلها، ولا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها من الشهر كله، ومن كان عليه قضاء من شهر رمضان فليبدأ بصيام ما فاته من شهر رمضان قبل صيام ستة أيام التي هي تطوع، فإذا فرغ منها وأراد صيام ستة من شهر شوال فحسب، واحذروا يا عباد الله من مقابلة نعم الله بمعاصيه فتكونون ممن بدل نعمة الله كفرًا، فالذي يجتهد في طاعة الله في رمضان وبعد انسلاخه يهجر المساجد ويتخلف عن الصلوات فيها مع الجماعات معتقدًا أن صيام رمضان وقيامه يكفر عن السنة كلها لمقتضى الحديث وينهمك في المعاصي والمنكرات فقيامه عليه مردود وباب القبول عنه مسدود ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 5].

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا نعمه أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ فضله وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأسأله التوفيق لعبادته والابتعاد عن موجبات نقمه وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله إلى الناس كافة عربهم وعجمهم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان حتى انقضاء أجله.

أما بعد أيها الناس، أوصيكم ونفسي بتقوى الله- تعالى- ومتابعة الإحسان بالإحسان لتفوزوا برضى ربكم عظيم الشأن.

عباد الله إن هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام مقادير الآجال ومواقيت للأعمال ثم تنقضي سريعًا وتمضي جميعًا، والذي أوجدها وخصها بالفضائل باق لا يزول، دائم لا يحول، وهو في جميع الأوقات إله واحد ولأعمال عباده مشاهد، فسبحان من قلب عباده في اختلاف الأوقات بين وظائف الطاعات، يسبغ عليهم كامل النعم، ويعاملهم بنهاية الجود والكرم، فلما انقضت الأشهر الكرام الثلاثة المفضلة التي أولها شهر رجب المحرم وآخرها شهر رمضان المكرم أقبلت الشهور الثلاثة أشهر الحج إلى بيت الله المعظم، فكما أن من صام رمضان وقامه غفر له ما تقدم من ذنبه فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فما تمضي من عمر الإنسان المؤمن ساعة من الساعات إلا وله فيها وظيفة من وظائف الطاعات فالمؤمن يتقلب في عمره بين هذه الأوقات ويتقرب بها إلى مولاه وهو راج وخائف، وليس لعمل المؤمن أجل إلا الموت يقول خالقه سبحانه: ﴿ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ﴾ [الحجر: 99].

فاتقوا الله- عباد الله- واشكروه على نعمه واذكروه على آلائه واعملوا صالحًا ينجكم من عذابه قبل أن يحين الأجل ولا يجدي إدراك ولا تقبل توبة.

والحمد لله رب العالمين.





[1] مسند الإمام أحمد ح (5114).

[2] صحيح البخاري ح (38) ومسلم (760).

[3] صحيح مسلم (164).
شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الأربعاء، 26 ديسمبر 2012 ' الساعة  5:06 م


 
Toggle Footer