مشهد التقوى في
الحج
د. محمد بن إبراهيم الحمد
لكل عبادة في الإسلام حكمةٌ أو حكمٌ يظهر بعضها بالنص عليه، أو بأدنى عمل عقلي، وقد يخفى بعضها إلا على المتأملين المتعمقين بالتفكر، والتدبر، والموفقين بالاستجلاء، والاستدبار.
ولكل عبادة في الإسلام تُؤدَّى على وجهها المشروع، أو بمعناها الحقيقي آثارٌ في النفوس تختلف باختلاف العاملين في صدق التوجُّه، واستجماع الخواطر، وإخلاص النيات، واستحضار العلاقة بالمعبود.
والعبادات إذا لم تُعْطِ آثارها في أعمال الإنسان الظاهرة فهي عبادات مدخولة، أو جسد بلا روح.
هذا وإن للحج حِكَماً باهرة، وأسراراً بديعة، وآثاراً على الفرد والأمة.
وما زال المسلمون ينهلون من معين الحج العذب، ويشهدون دروسه النافعة، وينالون من بركاته المتنوعة.
والحديث هاهنا سيدور حول أعظم درس، وأكبر حكمة تشهد في الحج، ألا وهي التقوى.
ولو تأملنا النصوص الواردة في الحج لوجدناها في معظمها تدور حول هذا المعنى العظيم، قال الله -تعالى-: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 197]، وقال - عز وجل -: ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ ﴾ [الحج: 37]، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ [الحج: 32].
فأولوا الألباب الذين خصهم الله بالنداء لتقواه؛ يأخذون من الحج عبرة للتزود من التقوى، فينظرون إلى أصل التشريع الإلهي، ومكانته المهمة في الدين، ويعلمون أن صدق المحبة والعبودية لله لا يكون إلا بتقديم مراد الله على كل مراد.
فهذا إبراهيم الخليل - عليه السلام - ابتلاه الله -تعالى- بذبح ابنه الوحيد إسماعيل، الذي ليس له سواه، والذي رزقه الله إياه عند كبر سنه، والذي هو أحب محبوب من محبوبات الدنيا.
وهذا الأمر من أعظم البلاء، وبه يتحقق الإيمان، وتظهر حقيقة الامتحان، فالخليل أعطى المسلمين درساً عظيماً للصدق مع الله، وذلك بتقديم مراد الله على مراد النفس مهما غلا وعظم، فإنه بادر إلى التنفيذ مع شدة عاطفته، وعظيم رحمته ورقته وشفقته؛ فأفلح، وأنجح، وتجاوز هذا البلاء، فرحمه الله، وشلَّ حركة السكين عن حلق ابنه، بعد أن أهوى بها الخليل؛ ففداه الله بذبح عظيم، وجعلها سنة مؤكدة باقية في المسلمين إلى يوم القيامة، ليعاملوا الله -تعالى- معاملة المحب لحبيبه ومعبوده، فيضحوا بمرادات نفوسهم، ومحبوباتها في سبيل مراد الله ومحبوبه.
فإذا عرف الحجاج هذا المعنى، وأدركوا هذا السر العظيم الذي لأجله شرعت الهدي والأضاحي؛ عادوا يحملون تلك المعاني العظيمة، التي تجعلهم لا يتوانون عن تنفيذ شيء من أوامر الله، فلا تمنعهم لذة النوم وشهوة الفراش عن المبادرة إلى القيام إلى صلاة الفجر، ولا يمنعهم حب المال، والحرص على جمعه من ترك الغش، والغبن، والربا، والتطفيف، وإنفاق السلع بالأيمان الكاذبة.
ولا يمنعهم حب الشهوات والميل إلى النساء، والطمع في نيل اللذة المحرمة من غض البصر، ولزوم العفة، وحفظ الفروج، إيثاراً لما يحبه الله على ما تحبه نفوسهم، وتنزع إليه طبائعهم، ورغبة في نيل رضا الله، وعوضه في الدنيا والآخرة.
ولا يمنعهم حب الدنيا عن الإنفاق في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
وعلى هذه النبذة اليسيرة من أعمال الحج فقس؛ وهكذا يستفيد أولوا الألباب من هذا الدرس العظيم من الحج ما يتزودون به على التقوى.
وبما أن الوصية بالتقوى أعظم ما ورد في القرآن الكريم، وبما أن أعمال الحج تدور حول هذا المعنى العظيم فإليكم شيئاً من البسط لمفهوم التقوى وفضائلها.
تعريف التقوى:
عرف العلماء التقوى بتعريفات عديدة هي من باب اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد، ومن تعريفاتهم ما قاله طلق بن حبيب - رحمه الله -: "التقوى أن تعملَ بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله".
وعرفها الراغب الأصفهاني - رحمه الله - بقوله: "التقوى بتعارف الشرع حفظ النفس عما يُؤثِم، وذلك بترك المحظور، ويتم ذلك بترك بعض المباحات".
وقال ابن الجوزي - رحمه الله -: "التقوى اعتماد المتقي ما يحصل به الحيلولة بينه وبين ما يكرهه".
وقال ابن تيمية - رحمه الله -: "اسم تقوى الله يجمع فِعْلَ كلِّ ما أمر الله به إيجاباً واستحباباً، ونهى عنه تحريماً وتنزيهاً، وهذا يجمع حقوق الله وحقوق العباد".
وقال ابن رجب - رحمه الله -: "أصل التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقايةً تَقِيْهِ منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبينما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وقايةً تقيه من ذلك وهو فعل طاعته واجتناب معصيته".
والكلام في التقوى يتضمن مسألتين عظيمتين:
المسألة الأولى: التقوى الكاملة: وهي ما اشتملت على فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، وربما دخل فيها بعد ذلك فعل المندوبات، وترك المكروهات، وبعض المباحات، هذا أعلى درجات التقوى، قال الحسن - رحمه الله -: "ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيراً من الحلال؛ مخافة الحرام".
وقال ميمون بن مِهران - رحمه الله -: "المتقي أشد محاسبة لنفسه من الشريك الشحيح لشريكه".
المسألة الثانية: أن التقوى لا بدّ أن تكون بعلم: قال ابن رجب - رحمه الله -: "وأصل التقوى أن يعلم العبد ما يتقي ثم يتقيه".
قال عون بن عبد الله: "تمام التقوى أن تبتغي علم ما لم يُعْلَمْ منها إلى ما علم منها".
وذكر معروف الكرخي - رحمه الله - عن بكر بن خنيس - رحمه الله - قال: "كيف يكون متقياً من لا يدري ما يتقي؟".
ثم قال معروف: "إذا كنت لا تحسن تتقي أكلت الربا، وإذا كنت لا تحسن تتقي لقيتك امرأةٌ فلم تَغُضَّ بصرك، وإذا كنت لا تحسن تتقي وضعت سيفك على عاتقك".
ثمرات التقوى:
التقوى وصية الله لخلقه ووصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمته، وثمرات التقوى لا تكاد تحصى ولا تحصر؛ إذ هي منبع كل خير ديني ودنيوي، وإليكم ذكراً لبعض تلك الثمرات:
1- الحفظ من الأعداء، قال الله - تعالى -: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً ﴾ [آل عمران: 120].
2- التأييد والنصر والمعية الخاصة، قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128].
3- حصول المخرج للمتقي، ورزقه من حيث لا يحتسب، قال -تعالى-: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق:2-3].
4- حصول التيسير، قال الله - تعالى -: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ﴾ [الطلاق: 4].
5- قبول العمل، قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27].
6- أن أكرم الناس عند الله أتقاهم له، قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13].
7- النجاة من النار، قال الله - عز وجل -: ﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً ﴾ [مريم: 71-72].
8- دخول الجنة، قال الله - عز وجل -: ﴿ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
9- محبة الله للمتقي، قال الله - عز وجل -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4].
10- انتفاء الخوف والحزن، ونيل البشارة في الدنيا والآخرة، والفوز العظيم، قال الله - تعالى -:﴿ أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمْ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [يونس:62-64].
11- أن الله يجعل للمتقي فرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، قال الله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً ﴾ [الأنفال: 29].
12- تكفير السيئات، وتعظيم الأجور، قال - عز وجل -: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً ﴾ [الطلاق: 5].
13- التقوى طريق العلم، قال - عز وجل -: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ﴾ [البقرة: 282].
14- التقوى سبيل الفلاح، قال - عز وجل -: ﴿ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 130].
15- التقوى خير الزاد، قال - عز وجل -: ﴿ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ﴾ [البقرة: 197].
16- التقوى خير لباس، قال - عز وجل -: ﴿ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 26].
17- أن العاقبة للتقوى وللمتقين، قال الله - عز وجل -: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، وقال - تعالى -: ﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص: 83].
18- نيل ولاية الله، قال الله - تبارك وتعالى -: ﴿ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الأنفال: 34].
19- نيل البركات، قال الله - تعالى -: ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ﴾ [الأعراف: 96].
وصايا السلف بالتقوى:
ومما يؤكد شأن التقوى أن السلف الصالح كانوا يتواصون بالتقوى كثيراً، ولو رام أحد من الناس حصر تلك الوصايا لربما أعياه الأمر، وإليكم طرفاً منها:
كان أبو بكر - رضي الله عنه - يقول في خطبته: "أما بعد: فإني أوصيكم بتقوى الله، وأن تثنوا عليه بما هو أهله".
ولما حضرته الوفاة وعهد إلى عمر، دعاه، فوصاه بوصية، وأول ما قال له: "اتق الله يا عمر".
وكتب عمر بن الخطاب إلى ابنه عبد الله - رضي الله عنهما -: "أما بعد: فإني أوصيك بتقوى الله - عز وجل - فإن من اتقاه وقاه، ومن أقرضه أجزاه، ومن شكره زاده؛ فاجعل التقوى نُصْبَ عينيك، وجلاء قلبك".واستعمل علي بن طالب -رضي الله عنه- رجلاً على سرية فقال: "أوصيك بتقوى الله الذي لا بدّ لك من لقائه، ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة".
وكتب عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - إلى رجل: "أوصيك بتقوى الله - عز وجل - التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يثيب إلا عليها؛ فإن الواعظين بها كثير، والعاملين بها قليل، جعلنا الله وإياك من المتقين".
ولما ولي خطب فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: "أوصيكم بتقوى الله - عز وجل - فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف".
المصدر : شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة