وإنه لتذكرة للمتقين
د. هاني درغام
وإنه لتذكرة للمتقين
الحمد لله ربِّ العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فكثيرًا ما كنتُ أسمع مِن الخطباء
والدعاة والوعاظ أنه لن يَعود للأمة سابقُ عزِّها ومجْدِها إلا بالعودة إلى القرآن
الكريم؛ فهو السبيل الوحيد للرِّفْعة والشرَف والنصر والتمكين.
وكنتُ أسأل نفسي: كيف نعود إلى القرآن الكريم؟
هل بالإكثار مِن تلاوته والتسابُق في
عدد ختماته؟
هل بالتنافُس في قراءته؛ مِن أجْل
تجميع أكبر قدر من الحسنات، ونَيل الخيرات والبركات؟
هل بالقراءة في كُتبِ التفسير وفهْم
معاني كلمات القرآن؟
هلْ... هل؟!
كل هذه الأمور وغيرها جيِّدة بلا شك -
وخاصةً إذا صَلَحتِ النيَّة - ولكن يظل الاهتمام الأكبر والشغل الشاغل المطلوب
مِنَّا هو التحرك بهذا القرآن؛ لتُصبح آياتُه بمثابة خارِطة طريقٍ لنا في حياتنا
نستضيء بأنوارها، نتنسَّم عَبيرها، نَسترشِد بهدْيها؛ حتى نُقوِّم في ضوئها المُعوجَّ
مِن أفكارنا وسلوكياتنا، نُهذِّب أخلاقنا، نزكِّي أرواحنا، نَنتصِر على أهوائنا.
لا بدَّ أن نتلقَّى آيات القرآن
للتطبيق والتنفيذ في كل مَيادين الحياة، تمامًا كما يفعل الجُنديُّ في ميدان
القتال عِندما يتلقَّى الأوامر مِن قائده.
لا بدَّ أن تكون آيات القرآن بمثابة
مِصباحٍ يُضيء القلب إذا أظلم، ويُزيل الرَّان الذي عَلِق بالنفوس مِن طول الغفْلة
والمعصِيَة.
استوقفَتْني آية في سورة الحاقة، وهي
تتحدَّث عن القرآن وتقول: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ
لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الحاقة: 48]، وقلتُ لنفْسي: لا بدَّ أن تأخُذ آياتُ القرآن
مكانَها اللائق في تربية الفرْد وصِياغة حياته بأكمَلِها وَفْق هَدْي القرآن، ومِن
ثَمَّ تربية المجتمع والأمة بأَسْرها؛ وبالمثال يتَّضح المقال:
إذا وقعَتْ بينك وبين أحد إخوانك
خُصومة ونِزاع، فأخطأ في حقِّك ثم طلب منك الصفْح والعفو؛ فعليك بتذكُّر قوله
تعالى: ﴿ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ
أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]،
فتستجيب لأمْر ربِّك، وتتغلَّب على نزَغات شيطانك، ووَساوس نفْسِك، وما قصَّة أبي
بكر الصديق - رضي الله عنه - من مِسطَح بن أُثاثَة ببعيدة عنك؛ فقد كان مِسطَح بن
أثاثة - وهو مِن فُقراء المهاجرين ومِن أقارب أبي بكر - ممَّن خاضوا في حديث
الإفك، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يُنفِق عليه، فآلى على نفسه لا يَنفَع
مِسطَحًا بنافِعة أبدًا، فأنزل الله هذه هذه الآيات: ﴿ وَلَا
يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى
وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا
وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ
رَحِيمٌ ﴾ [النور: 22]، فإذا الصدِّيق يُلبِّي داعي الله في طُمأنينة
وصدْق، ويَقول: بلى والله، إني لأُحبُّ أن يَغفِر الله لي، ويُعيد إلى مِسطَح
النفَقة التي كان يُنفِق عليه، ويَحلِف: والله لا أنزعها منه أبدًا، وهكذا طبَّق
الصدّيق - رضي الله عنه - قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ
لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الحاقة: 48].
مَوقِف آخَر لعُمر بن الخطاب - رضي
الله عنه -: لما قَدِم عُيَينة بن حِصْن الفَزاريُّ المدينةَ ودخَل على الفاروق،
قال: هيه يا بْن الخطَّاب، فوالله ما تُعطينا الجزْل، ولا تَحكُم فينا بالعدْل،
فغَضِب عُمر حتى همَّ أن يُوقِع به، فقال له الحُرُّ بن قَيس - وكان مِن جُلَساء
الفاروق ومُستشاريه -: يا أمير المؤمنين، لقد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله
عليه وسلم -: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، وهذا مِن الجاهِلين،
فوالله ما جاوَزها عُمر حين تلاها عليه - أي: سكَنَ وخضَع - وكان
وقَّافًا عِند كتاب الله، وهذا تَطبيق آخَر لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الحاقة:
48]، والأمثلة كثيرة.
إذًا المطلوب هو أن
نتلقَّى القرآن على أنه توجيهات عمليَّة، نَستحضِرها دائمًا في ما يُواجِهُنا في حياتِنا مِن مَواقِفَ
وشدائدَ وصعوباتٍ، وهكذا يتحوَّل القرآن إلى مَنهَج حياة في كل صغيرة وكبيرة مِن
أمورنا، وليس مُجرَّد كتاب نتبرَّك بتلاوته دون استِشعار مَعانيه ومَواعِظه،
نَعُدُّ حسنات، ونُحصي خيرات، مَواعِظ تُتلى، وعِبَرٌ تُسمع، وسورةٌ تُقرأ، ولكنها
تَدخُل مِن اليُمنى وتَخرج مِن اليُسرى.
كم تمنَّيت يومًا لو أن أحد
المُتخصِّصين في هذا المجال قدَّم لنا توجيهًا واحدًا - على الأقلِّ - لكل آية مِن
آيات القرآن البالغِ عددُها(6236)؛ لتكون لنا بمثابة البوصلة التي تُرشِد الحائرين -
وما أكثرَهم! - في سفينة الحياة.
إنني أُخاطِب نفسي وأريد منها كلَّما
مرَّت بي ضائقةٌ في هذه الحياة أن تُذَكِّرني بآيات سَعة رحمة الله - عزَّ وجل -
وقدرته النافذة، وحِكمته البالغة.
كلَّما أثقلتْ كاهِلي الذنوبُ
والآثام، ذكَّرتني بعفْو الله تعالى وسَعة مَغفرتِه.
كلما أصابَني الفُتورُ أو زارني
الكسل، ذكَّرتْني بآيات الجنة وما فيها مِن ألوان النعيم وأصناف المسرَّات.
كلما غلبَتْني شهْوَتي أو غرتْني نفسي
الأمَّارة بالسوء ذكَّرتني بآيات الوعيد والترهيب.
وهكذا، أريد مِن كل آية مِن آيات
القرآن أن تَسكُب في قلبي حلاوةَ الإيمان، وبرْد اليقين، ورَوعة الأُنسِ بالله،
والثقة فيه، والتوكُّل عليه.
هكذا أحسب أنَّ الهدف الرئيس لنزول
القرآن هو أن "يُبرمِج" حياة الإنسان وَفْق أنوار هداياته؛ ليَنعم
بالراحة والسعادة والسكينة الدائمة في الدنيا قبل الآخِرة، وإلا فالمصير مُخيف،
والعواقب وخيمة؛ ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي
فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ
حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ
الْيَوْمَ تُنْسَى ﴾ [طه: 124 - 126].
أستَأذِن إخواني الكِرام أن أُشارك
معهم بهذه التأمُّلات والنظَرات في آيات الله تحت عُنوان: "آيات بينات، وأنوار هاديات"، أحاول بجهْد
المُقلِّ، وبِبضاعَتي المزجاة أن أَقطِف مِن كل بستان زهرة، وأجمع ما قاله العلماء
الأجلَّاء؛ لأستَخلِص منه توجيهاتٍ في بعض الآيات؛ لتَكون لنا نِبراسًا يُضيء لنا
الطريق ويُرشِد السالكين، مُعتذِرًا لإخواني على إقحام نفسي في هذا المجال رغم
أنني لستُ مِن أهل التخصُّص، سائلاً المولى - عزَّ وجلَّ - أن يُيسِّر مَن يقوم
باستِخراج ما تيسَّر مِن توجيهات جميع سُوَر القرآن وجمْعها في مجلَّدات، أَعتقِد
أنها ستَكون ضخْمةَ الحجْم، وكَثيرة الصفحات؛ فالقرآن لا تَنقضي عَجائبه ولا يَخلق
على كثرة الردِّ.
أسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يَجعلني
وإياكم من أهل القرآن، وأن يَجعل القرآن نورًا لنا في الحياة الدنيا، وشَفيعًا لنا
في الآخرة، إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، والحمد لله ربِّ العالمين.
تم النشر يوم
الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة