الخميس، 27 ديسمبر 2012


{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ}


ماجد بن أحمد الصغير


الحمد لله رب العالمين ، أحاط بكل شيء علماً ، وأحصى كل شيء عدداً ، والصلاة والسلام على النبي الأمي الكريم وآله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .


أما بعد :
فإن الله قد أحاط بعلم الغيوب كلها وهو شاهد على علم الشهادة كله لهذا قال الله تعالى عن نفسه :{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالٍ} [الرعد:9] وقال الله جل وعلا : {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } [سورة التوبة : 78] . (فالغيب : ما غاب عن الناس ، والشهادة : ما شهدوه وأبصروه وعاينوه ، فعلم الله سبحانه وتعالى تام ، وكامل ، ومحيط بكل شيء ، لم يسبقه جهل ، ولا يلحقه نسيان {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ً} [سورة مريم : 64 ]، { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } [سورة الجن : 28]. يقول الله سبحانه : { إِنّمَآ إِلَـَهُكُمُ اللّهُ الّذِي لآ إِلَـَهَ إِلاّ هُوَ وَسِعَ كُلّ شَيْءٍ عِلْماً ً} [سورة طه : 98] ، ويقول : { قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا } [سورة الفرقان : 6]. فما من قول ولا فعل في السر ولا في الجهر ، في السماء ولا في الأرض ، في البحر المحيط الواسع ، أو في الفضاء البعيد العالي إلاَّ يعلمه سبحانه وتعالى بتفاصيله .
أحاط علمه بالحبة في ظلمات الأرض ، وبالورقة الساقطة فيها ، وبالرطب واليابس ومثل ذلك وأعظم منه علمه بمكاييل البحار وعدد قطر الأمطار، ومافي البر من مثاقيل الجبال وعدد حبات الرمال ، كل ذلك أحاط به الله جل جلاله وتباركت أسماؤه إحاطة كاملة فـ { لاَ يَعْزُبَ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرّةٍ فِي السّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأرْضِ وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتَابٍ مّبِينٍ } [سورة سبأ :3] .
أحصاه الله وكتبه في كتاب لايضل ربي ولاينسى . يقول تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام:59] .
وقد حضيت صفة العلم في نصوص القرآن بمكانة خاصة ؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً شديداً بمسؤولية الإنسان، ووقوفه أمام الله جل وعلا ، وما ينبني عليها من الإحساس بمراقبة الله على أعمال الإنسان الظاهرة والباطنة ، ولذلك نجد الإشارة إليها تتخلل آيات القرآن من أوله إلى آخره ، مع التركيز على علم الله لأفعال العباد ، حسنها وسيئها ، لكي يظل إيمان الإنسان بها قائماً في أعماق النفس ، وباعثاً له على تجويد العمل ، والإحسان في القصد ، ثم يربط بين الاعتقاد بهذه الصفة وبين السلوك البشري الصحيح ، يقول سبحانه وتعالى : { وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فى أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } [سورة البقرة : 235 ] .
ويسوق الحديث عن العلم الإلهي المحيط مشفوعاً بما يترتب عليه من إحصاءٍ للأعمال ، ومن محاسبة عليها ، ومن مجازات بالنعيم والجحيم { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ سورة البقرة : 284 ] { قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ سورة آل عمران : 29 و 30 ].


وتأتي الآيات الكثيرة في كتاب الله ؛ لتذكر بأن ّالله عالم بالعباد ، وآجالهم وأرزاقهم وأحوالهم وشقائهم وسعادتهم ، ومن يكون منهم من أهل الجنة ، ومن يكون منهم من أهل النار قبل أن يخلقهم ويخلق السموات والأرض .


فهو سبحانه وتعالى عليمُ بما كان وما هو كائن وما سيكونُ ، لم يَزَل عالِما ولا يَزال عالما بما كان وما يكون ، ولا يخفى عليه خافية في الأَرض ولا في السماء ، أَحاط عِلمُه بجميع الأَشياء باطِنِها وظاهرها ، دقِيقها وجليلها [1].


وقد اشتملت الآيات على مراتب العلم الإلهي ، وهو أنواع :


أولهـا : علمه بالشيء قبل كونه ، وهو سر الله في خلقه ، اختص الله به عن عباده .
وهذه المرتبة من العلم هي علم التقدير ومفتاح ما سيصير ، ومن هم أهل الجنة ومن هم أهل السعير ؟ فكل أمور الغيب قدرها الله في الأزل ومفتاحها عنده وحده ولم يزل ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان:34] ، وقال سبحانه : { قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } . [النمل:65] .


ثانيـها : علمه بالشيء وهو في اللوح المحفوظ بعد كتابته وقبل إنفاذ أمره ومشيئته .
فالله عز وجل كتب مقادير الخلائق في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة ، والمخلوقات في اللوح قبل إنشائها كلمات ، وتنفيذ ما في اللوح من أحكام تضمنتها الكلمات مرهون بمشيئة الله في تحديد الأوقات التي تناسب أنواع الابتلاء في خلقه ، وكل ذلك عن علمه بما في اللوح من حساب وتقدير ، وكيف ومتى يتم الإبداع والتصوير ؟ كما قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحج:70] ، وقال أيضا : { مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } [الحديد:23] .


ثالثـها : علمه بالشيء حال كونه وتنفيذه ووقت خلقه وتصنيعه ، كما قال : { اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ * عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } [الرعد:8-9] ، وقال تعالى : {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } [ سبأ:2] .


رابعـها : علمه بالشيء بعد كونه وتخليقه وإحاطته بالفعل بعد كسبه وتحقيقه .
فالله عز وجل بعد أن ذكر مراتب العلم السابقة في قوله تعالى : { وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } [الأنعام:59] ، ذكر بعدها المرتبة الأخيرة فقال : { وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . [الأنعام:60] ، وقال أيضا : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } [قّ:4] ، وقال : { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ } [التوبة:78][2] .


الآثـار الإيمانيــة :


من الأثــار :
أن يتيقن المؤمن دائماً أن الله عليم بما يصنعه بجوارحه ، وما يعزم عليه في قرارة نفسه ، علماً يجعله دائماً نزَّاعاً للطاعات ، مسارعاً للخيرات ، مجانباً للسيئات ، مراقباً لنفسه بنفسه ، وحذراً من نفسه على نفسه ، فيحقق المراقبة لله سبحانه وتعالى وبدوام ذلك والمجاهدة عليه يترقى المؤمن من درجة الإيمان إلى مرتبة الإحسان وهي ((أن تعبد الله كأنك تراه)) [3] وفي لفظ لمسلم ((أن تخشى الله كأنك تراه)) [4] ؛ لأن هناك علاقة قوية يبرزها القرآن بين الإيمان بعلم الله ، وبين الامتناع عن الإثم ، والفسوق ، والعصيان ، وبين المسارعة في أعمال البر والطاعة ، قال الله سبحانه : {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا‏ * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا } . [النساء 107-108].


والغفلة عن هذا المعنى تجعل الإنسان يقتحم بحر الذنوب العميق ، ويخوض غماره خوض الجسور لاخوض الجبان الحذور ، وتجعله يتوغل في كل مظلمة ، ويتهجم على كل مشأمة ، فإذا بلغ علمه اليقين الجازم أن الله يطلع على خفايا الإنسان ، ويحاسبه عليها ، ويجازيه حتى على نياته ، ويراقبه حتى على خلجاته ؛ ورث الهيبة من قربان حدودها ، فبقدر قوة إيمان الإنسان بسعة علم الله تزداد خشيته ، ويعظم ورعه ، ويحسن عمله ، وترتدع نفسه ، وبقدر ضعف إيمانه وجهله بذلك يكثر زلله ، ويتوالى انحرافه .
والله المستعان .


إنّ يقين المؤمنِ بأن الله يعلم أحواله ، سرها ، وعلنها ، يحمله على التهيب من الإقدام والجرأة على حدود الله واقتحام حرماته حياء منه سبحانه ، فالزوج الذي يتذكر هذه الرقابة الدائمة لايخون الله ولايخون زوجته ، والمرأة المراقبة لله لا تضيع أمانة زوجها وشرفه ، والأجير لا يسرق من مال صاحبه ؛ لأن الجميع يعلمون أن الله يعلم ما في أنفسهم فيحذروه .


فمهما تكن عند من امرئ من خليقة *** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
فلا تكتمن الله مافي نفوســـكم *** لتخفى ومهما يكتم الله يعلم
يوخر فيوضع في كتــاب فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينقم [5]


ومن الآثــار :


الاعتقاد بأن الله عز وجل علم في الأزل جميع ما هو خالق ، وعلم جميع أحوال خلقه ، وأرزاقهم ،و آجالهم ، و أعمالهم ، و شقاوتهم و سعادتهم ، وعلم عدد أنفاسهم ولحظاتهم ، وجميع حركاتهم و سكناتهم أين تقع و متى تقع وكيف تقع ، كل ذلك بعلمه ، و بمرأى منه و مسمع ، لا تخفى عليه منهم خافية سواء في علمه الغيب والشهادة و السر والجهر والجليل والحقير لايعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات و لا في الأرض و لا في الدنيا و لا في الآخرة . { إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ } [آل عمران:5] { اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَىْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [الرعد :8] . فهذا الاعتقاد يورث المؤمن تعظيم الله والرضى عنه والتسليم لمقاديره حلوها ومرها .


إن الإيمان بعلم الله يجعل الإنسان يعتدل في حياته فلا تبطره النعمة ولا تقنطه المصيبة لعلمه أن الجميع من عند الله ، وأن ذلك بعلم الله ومشيئته .


ومن الآثـار :


أنّ جماع الخير أن ينزل الإنسان عن محبوباته لوجه الله عز وجل ، وبذلك تسخو نفسه ، وتتحرر من رق الشهوات وعبوديتها ، ولا يقدر الإنسان على ذلك إلا إذا عرف أن الله سبحانه يعلم ما ينفقه الإنسان ويشكره عليه ويجازيه أحسن الجزاء وعلى هذا الدرب سار الكثير يلبون نداء الله ليرتقوا مرتقى البر العالي الكريم ؛ ولذا لمانزل قوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ وَمَا تُنْفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ }. جاء أبو طلحة الأنصاري وكان أكثر أنصاري بالمدينة مالاً, وكان أحب أمواله إليه بيرحاء, وكانت مستقبلة المسجد, وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب, قال أنس: فلما نزلت { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ } قال أبو طلحة: يا رسول الله, إن الله يقول { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ } , وإن أحب أموالي إليّ بيرحاء, وإنها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله تعالى, فضعها يا رسول الله حيث أراك الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم, «بخ بخ ذاك مال رابح, ذاك مال رابح, وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين», فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله, فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه [6].
وقال ابن عمر رضي الله عنه ( أصاب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أرضا بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمر به قال إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها قال فتصدق بها عمر ... ) [7] . وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : حضرتني هذه الاَية { لَن تَنَالُواْ الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُواْ مِمّا تُحِبّونَ } فذكرت ما أعطاني الله, فلم أجد شيئاً أحب إليّ من جارية لي رومية , فقلت: هي حرة لوجه الله, فلو أني أعود في شيء جعلته لله لنكحتها , يعني تزوجتها [8].إنه الافتداء والإنفاق ليوم لا ينفع فيه الإنفاق ولا الافتداء ؛ فافتد نفسك وانفق عليها واعلم أنك لن تنال البر حتى تنفق مما تحب وأن ماتعمل من شيئ فإن الله به عليم [9].


ومن الآثـار :


أن يرضى الإنسان بالمقدور ويستسلم لمشيئة الله العليم الحكيم {.. وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (البقرة: 213) ، فلاتتشكى من مقادير الله واصبر وتصبر على ما أصابك ، فإن جاءتك نعمة فاشكرها ، وإن فاتك مأرب أو استعصى عليك مطلب ، فلاتتـألم . خذ لنفسك حظها من الإيمان والعلم والأدب ، ثم لا تحفل بما فاتك بعد ذلك فما فاتك شيء فقد حصلت كل شئ !.


استخر ربك يختر لك الأفضل ، ولا تتحسر على فوات صفقة ، ولاتحزن على ذهاب زوجة فالله يعلم أن هذه التجارة لن تغنيك ، ويعلم أن هذه الزوجة لن تسعدك ، واسأل الله الخيرة وحسن العاقبة والرضى في الأمر كله .


عن جابر رضي الله عنه قال : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كالسورة من القرآن إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين ثم يقول اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاقدره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال في عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به ويسمي حاجته ). [10]


ومن الآثــار:


تربية الأبناء على معاني مراقبة الله واطلاعه وسعة علمه فلايزال الأب والأم يعللان أنفسهما و يذكران أولادهما بأن الله يعلم ويرى : { أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى } (العلق:14) { يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } ( لقمان:16) ،وهذه هي أعظم وظيفة للأم وأجل رسالة تبلغها .
فالأم مربية الأجيال الأولى ومهد البطولة والفضيلة تربي في قلوب أبناءها تعظيم الإله ، والصبر والثبات والتضحية في سبيل الإسلام ،والدفاع عن حياظه.


الأم مدرسة إذا أعددتهـا *** أعددت شعباً طيب الأعراق .
الأم روض لو تعاهده الحيا *** بالري أورق أيمَّــا إيـراق .


ومن الآثــار :


أن المؤمن حذر من التطلع لما خص به الله نفسه من علم الغيب في وقت ترامى الناس على أبواب المنجمين والعرافين وابتدروا قنواتهم ( يرقبون من هؤلاء مايرقب الروض من غادية السحب ، وهاموا بهم هيام الإبل العطاش على موارد الماء يطلبون ماوراء السريرة – والسريرة كنز مرصود لاتنجع معه النافثات ولاتجدي معه الزاجرات - فالمستقبل لله والغيب من اختصاص الله ) .


لعمرك ما تدري الضوراب بالحصى *** ولا زجرات الطير ما الله فاعل .
سلوهن إن كذبتموني متى الفتى *** يذوق المنايا أو متى الغيث واقع [11].


فلا يحملنك أيها المسلم شوقك لمعرفة مستقبلك ، وحظك المنشود ، أو رفع حاضرك المنكود أن تتسور على الغيب عن طريق هؤلاء فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ( من أتى عرافا فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ) [12] قال صلى الله عليه وسلم : ( من أتى عرافاً ، أو كاهناً ، فسأله فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم )[13].


ومن الآثـار :


فضيلة العلم والتعلم ؛ لأن الله عليم يحب والعلماء ، وفي آيا ت الوحي الأولى أمر بالقراءة والتعلم { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } بل أمرين {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ‏ } .
وما أوتى الإنسان نعمة بعد الإيمان أعظم من نعمة العلم ،وهي التي شرف الله بها آدم عليه السلام فأمر الملائكة بالسجود له إظهارا لمزية العلم مع أنهم أكثر منه عبادة .


ومن الآثـار :


أنه إذا عرف الإنسان منزلة العلم ، ورفعة أهله ، وسمت همته لتحصيله ؛ فعليه أن يرغب إلى الله سبحانه معلم الأنبياء أن يفتح عليه مغاليقه ، وييسر له أسبابه ؛ فإن الله سبحانه وتعالى واهب العلم والمعرفة .
قال يوسف عليه السلام { رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ } وقال سبحانه عن الخضر : { وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَدُنَّا عِلْما } .وقال عز وجل : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا ً} وقال لسيد الأولين والآخرين {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا } .
فإذا استغلق على الإنسان الفهم ، واشتد عليه الحفظ ؛ فليجأ إلى الله ، وقد كان ابن تيمية يخرج إلى المساجد البعيدة ويمرغ وجهه ويقول يامعلم ابراهيم علمني ويامفهم سليمان فهمني .


ومن الآثـار :


أن على من أوتي نصيباً من العلم أن لا يغتر ولايطغى بسبب علمه – فإن للعلم طغيان كطغيان المال إذا لم يهذب بالتقوى والخشية - عليه أن يعلم أن العلم بحر لاساحل له ولاشطآن له ودعاوى العلم قصور كبير( ومن أراد النصيب الأوفى من العلم فليشفع علمه بدوام تقوى وخشيته والعمل بأمره واستشعار علمه ومعيته حتى يخشى الله فـ{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر:28) فإن من لا يخشى الله لايعد عالماً ، وأعظم طريق لتحقيق التقوى وتحصيل الخشية كثرة ذكر الله وطهارة القلب من المهلكات وطهارة الجوف من المحرمات فإن مقام العلم لايصلح إلا لمن تطهر باطنه وظاهره وصلح قوله وعلمه [14] .
فحري بك أيها المؤمن عالماً أو متعلماً أن لاتشوه وجه إيمانك بالكبرياء فما على وجه الأرض أسمج وجها من المتكبرين والله سبحانه وتعالى يقول : { ولا تصعّر خدَّكَ للنَّاسِ ولا تَمشِ في الأَرضِ مَرَحاً إنّ اللّهَ لا يُحِبُ كُلّ‏ مُختَالٍ فَخُورٍ } (لقمان:18) .


ومن الآثــار :


الحذر و الخوف من أن توافي الإنسان منيته على غير ما يحب ، وذلك ؛ لأن العاقبة في علم الله عز وجل ولايدري أحد ما الله فاعل ، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء و ( إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة الزمن الطويل ثم يسبق عليه الكتاب فيكون من أهل النار )[15] وفي الحديث : ( فوالله الذي لا إله غير إن أحدكم ليعمل بعلم أهل الجنة حتى مايكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها )[16] ، و( الأعمال بالخواتيم )[17]


اللهم اختم بالسعادة أعمارنا وأعمالنا .
والحمد لله رب العالمين .






[1]- ينظر : المعنى اللغوي في لسان العرب 12/421 ، والنهاية في غريب الحديث 3/292 ، ومفردات ألفاظ القرآن ص580 ، واشتقاق أسماء الله للزجاج ص50 ، الأسماء الثابتة في الكتاب والسنة للرضواني اسم (العليم) .ص59-60 بتصرف واختصار .
[2]- ينظر: مدارج السالكين ، للإمام ابن القيم 1/107 ؛ المقصد الأسنى ، للغزالي ص 126 ؛ وشرح أسماء الله الحسنى للرازي 240 ؛ والأسماء والصفات للبيهقي ص91 ؛ أسماء الله الحسنى الثابتة في الكتاب والسنة إعداد د .د / محمود عبد الرحمن الرضواني ص 59 -60 بتصرف واختصار .
[3]- رواه البخاري رقم (50) ، ومسلم رقم (9) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
[4]- رواه مسلم رقم (10) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[5]- شرح ديوان زهير بن أبي سلمى ص25.
[6] أخرجه البخاري ( 1461) ، ومسلم ( 2805). من حديث أنس رضي الله عنهما .
[7] أخرجه البخاري ( 2586) ، ومسلم ( 1632). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .
[8] رواه البزار ، وحسنه الحافظ ابن حجر ، ينظر : مختصر زوائد البزار (2/72) .
[9] ينظر : تفسير القرآن العظيم ، للحافظ ابن كثير (1/523) ؛ في ظلال القرآن ، لسيد قطب ( 1/424).
[10] رواه البخاري رقم (6019) .
[11] ديوان لبيد بن ربيعة ص 90.
[12] أخرجه مسلم (2230) . عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
[13] رواه أبو داود ( 15) . وهو حديث صحيح .
[14] ينظر : موسوعة ولله الأسماء الحسنى ، للنابلسي ص 126 .
[15] أخر جه مسلم ( 2651) . من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[16] أخرجه البخاري ( 6221) ، ومسلم ( 2643) . من حديث ابن مسعود رضي الله عنه
[17] أخرجه البخاري ( 6233) . من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه .

صيد الفوائد
 تم النشر يوم  الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة  12:39 م


 
Toggle Footer