سورة الكهف (معالجتها
للفتن)
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي
أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ
عِوَجًا) أحمده حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ويرضى، وأشهد ألا إله إلا
الله وحده لا شريك له؛ أنزل القرآن للتعبد بتلاوته، وتدبر آياته، والانتفاع بعظاته
(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ آتاه الله تعالى الحكمة
والكتاب، وشرفه بالدعوة إلى الهدى والإيمان (وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا
كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي
بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، وبالعمل الصالح الذي ينفعكم في دنياكم وأخراكم (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
أيها الناس: في القرآن من العظة والعبرة ما ليس في غيره من كلام الناس، وقصصه وأمثاله ليست كالقصص والأمثال الأخرى، فلا يذكر فيها إلا ما يحتاجه المكلفون مما يكون به صلاحهم في الحال والمآل، وما لا فائدة من معرفته فإن القرآن العظيم أهمل ذكره، وطوى عن الناس خبره، وهذا سبب من أسباب عدم الملال من تكرار القصة في القرآن، وكم يكرر المسلم في حياته من سورة يقرءوها، أو قصة في سورة، أو مثل مما ضربه الله تعالى للناس، وما يمل من ذلك، ولو كرر قصة من القصص البشرية أو مثلا من أمثال الحكماء لمل ذلك.
وسورة الكهف قد امتازت عن غيرها من السور بميزات عدة، وجاء فيها من الفضل والأجر ما لم يأت في غيرها، وإن كانت بعض السور أفضل منها كسورتي الفاتحة والإخلاص.
وسورة الكهف هي سورة يوم الجمعة؛ لأن المسلمين يقرءونها فيه؛ إتباعا للسنة، وتحريا للفضل، وطلبا للنور الذي يضيء لقارئها ما بينه وبين البيت العتيق، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وسورة الكهف قرأها أحد الصحابة رضي الله عنهم فوقعت له كرامة عظيمة وهو يقرأها؛ كما روى الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:(كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشَطَنَين فتغشَّتُه سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفِر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن)
وحفظ الآيات العشر الأولى من سورة الكهف، أو قراءة الآيات العشر الأخيرة منها سبب للعصمة من أكبر فتنة في البشرية، وهي الفتنة بالدجال، وكل ذلك ثابت في أحاديث صحيحة، ولم يرد مثل ذلك في غيرها من السور والآيات.
إن سورة الكهف قد عرضت لأربع قِصص فيها من العظة والعبرة ما فيها، وهي قصة أصحاب الكهف التي سميت السورة بها، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين رحمه الله تعالى، وكل واحدة من هذه القصص الأربع قد عالجت فتنة من كبريات الفتن التي يسقط فيها كثير من الناس، فلا غرو أن تكون آيات منها سببا للعصمة من أكبر الفتن وهي فتنة الدجال.
إننا نتلوا في هذه السورة قصة أصحاب الكهف وهم فتية آمنوا بربهم في وسط أناس مشركين، وعلموا من حق الله تعالى عليهم ما علموا في قوم جاهلين؛ فكان ذلك سببا لفتنتهم في دينهم، فلم يستسلموا، ولم يتبعوا قومهم في ضلالهم، ولاوافقوهم على كفرهم؛ بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد أهلوهم وعشيرتهم (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
ثم أتبعوا القول بالعمل فتبرءوا من المشركين واعتزلوهم، وآووا إلى كهف ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وليفروا من الفتنة في الدين، فكان جزاؤهم في الدنيا تلك الكرامة العظيمة التي نالتهم وهم في كهفهم، فنجوا بها من الكفار وكيدهم، وكانت كرامة الله تعالى لهم آية تتلى على مر العصور.
وفي التعقيب على هذه القصة العظيمة يأمر الله تعالى بصحبة الصالحين من عباده، واصطبار النفس على ذلك ولو لم يكونوا أهل مال وثراء ودنيا، مع مجانبة أهل الغفلة، وأتباع الهوى الذين لا يردعهم دينهم عن هواهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
ونستفيد من ذلك أن من أسباب الثبات على الدين: صحبة الصالحين ممن ثبتوا على دينهم ولو كانوا هم الأقل والأضعف، كما فعل أصحاب الكهف؛ إذ جانب كل واحد منهم أهله وعشيرته المشركين وهم أكثر وأقوى، وصاحب المؤمنين وهم الأقلون المستضعفون، وفي صحبة الصالحين من التثبيت على الدين، والإعانة عليه، وتحصيل الخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى قال بعض الصالحين: من أحب أهل الخير نال بركتهم، كلب أحب الصالحين ذكره الله تعالى في القرآن
كما نستفيد من هذا التعقيب: أن إتباع الهوى، وطاعة أهل الغفلة عن ذكر الله تعالى سبب للفتنة في الدين، والتحول عنه شيئا شيئا، كما أن سبب إتباع الهوى، وطاعة أهل الغفلة هو طلب حظ من حظوظ الدنيا . ولو أن فتية الكهف أطاعوا أهل الغفلة من قومهم، واتبعوا أهواءهم؛ ميلا إلى الدنيا وزخارفها لما نجوا، ولما كان خبرهم آية تتلى.
وما أحوج المسلم في هذا الزمن الذي يموج بالفتن إلى فقه هذا الدرس العظيم من هذه القصة العجيبة، فيثبت على دينه ولو رأى قلة الثابتين، ويضحي بكل نفيس في سبيل ذلك؛ فإن الثمن جنة عرضها السماوات والأرض، وليحذر من الاغترار بالباطل وأهله مهما كانت قوتهم، وبلغت علومهم؛ فهم وحضارتهم إلى تباب وخسران ما لم يؤمنوا بالله تعالى وحده لا شريك له.
والمال فتنة من أكبر الفتن التي افتتن الناس بها قديما وحديثا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم؛ إذ حولته في عقول أتباعها من وسيلة ينتفع بها إلى غاية تلغى في سبيلها كل المبادئ والقيم والأخلاق. ونجد علاج هذه الفتنة في قصة صاحب الجنتين الذي أنعم الله تعالى عليه بما وصف في تلك السورة(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) ولكنه افتتن بذلك، ونسي أمر الساعة، وتكبر على الناس بماله (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً).
فكان ثمرة افتتانه بماله، ونتيجة علوه على الناس بسببه أن أذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابا يبابا (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً).
وبعد قراءة هذه القصة العجيبة نجد أن الله تعالى قد ضرب مثلا عظيما في الدنيا؛ بيانا لحقيقتها، وإثباتا لزوالها، وتحذيرا من الغرور بها (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) ثم ذكر سبحانه الآخرة والحساب، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فمن فتن بالمال فعطل الفرائض من أجله، وجاوز الحلال إلى الحرام في جمعه وإنفاقه، واستعلى على الناس به؛ فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين، ولينعم النظر في المثل الذي ضربه الله تعالى للدنيا عقب ذلك، وليتدبر الآيات التي تخبر عن شدة الحساب والكتاب الذي يحصي الصغيرة والكبيرة؛ فإنه إن فعل ذلك خاف المال وكثرته، وحاذر من فتنته.
ومن فتن هذا العصر: الفتنة بما فتح الله تعالى على البشرية من أنواع العلوم والمعارف التي قادت كثيرا من الناس إلى الكفر بالله تعالى، وتكذيب آياته، والإلحاد في أسمائه وصفاته؛ فزعم المفتونون بهذه العلوم والمعارف أن الإنسان هو مركز الكون، ومحور الوجود، وأنه سيطر على الطبيعة، وأنه لا وجود إلا للمادة، في إلحاد صارخ، وإلغاء لعالم الغيب، وإنكار للآخرة، بل زعم بعض ملاحدة هذا العصر أن الإنسان سيسيطر على الموت، وسيكتشف بلسم الحياة.
لقد فتنوا أشد الفتنة بالعلوم العصرية، وبسببها عبدوا الدنيا، وتركوا النظر في الموت وما بعده فنسوا الآخرة.
وقد يفتن الإنسان بالعلوم الشرعية فلا ينتفع بها قلبه، ولا تزيد إيمانه، ولا تقوده إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال، وذلك حين يغتر العالم بعلمه، ويستعلي به على غيره، ويجعله مطية لدنياه، فيحرف الكلم عن مواضعه ليرضي الأهواء، وينصر الباطل على الحق، ويعتد برأيه ولو كان مخالفا للنصوص والإجماع.
ونجد علاج هذه الفتنة العظيمة في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام؛ فنبي الله موسى عليه السلام، كليم الله جل جلاله، وهو من أولي العزم، وقد فضل على أكثر الرسل عليهم السلام، وأيده الله تعالى بالمعجزات، وأظهر على يديه الآيات، ودحر به السحرة وعلومهم، ومع ذلك كله لم يتكبر بما أعطاه الله تعالى من أنواع العلوم والمعارف، وما أجرى على يديه من الآيات والمعجزات، بل تواضع لله تعالى، ورحل يطلب العلم على يد الخضر عليه السلام، وقال مقولة التلميذ المطيع لأستاذه (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)
يقول موسى ذلك للخضر عليهما السلام وهو أفضل وأعلم بالله تعالى منه، وهو رسول والخضر عبد صالح، لكنْ عنده علم لا يعلمه موسى، فتعلم موسى عليه السلام منه.
ولما علَّم الخضر موسى عليهما السلام مما علمه الله تعالى لم يغترَّ بعلمه، بل نسب ذلك إلى الله تعالى؛ اعترافا بفضله، وحمدا له فقال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
وما أحوج من فتنوا بالعلوم العصرية أن يعترفوا بفضل الله تعالى عليهم، وينسبوا علومهم إليه، ويسخروها في ذكره وشكره وحسن عبادته، فهو سبحانه الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون (عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
ولكن أهل الحضارة المعاصرة أعرضوا عن ذلك، ولم ينسبوا الفضل إلى الله تعالى فيما أعطوا من العلوم والمعارف، وما ملكوا من أسباب القوة والهيمنة، بل نسبوا ذلك إلى أنفسهم وإلى تجاربهم وخبراتهم، ولم يسخروا معارفهم وقوتهم في عبادة الله تعالى، ورفع الظلم، وإقامة العدل، بل سخروها في محاربة الله تعالى، ونشر الفساد، وظلم العباد، وقهر الناس والسعي في تبديل دينهم، وإفساد فطرهم وعقائدهم وأخلاقهم، والتسلط على بلدانهم، ونهب ثرواتهم، فما زادتهم علومهم وحضارتهم إلا إفسادا في الأرض، وعلوا على الناس، فجرت عليهم سنة الله تعالى التي جرت على أسلافهم من قبل، وبدت بوادر هزيمتهم وإذلالهم، وظهور المستضعفين عليهم، وأتاهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا؛ فكانت رفاهيتهم التي نتجت عن علومهم وحضارتهم سبب خورهم وضعفهم، وعدم قدرتهم على مقارعة أعدائهم، فكسرت شوكتهم على الملأ، وزالت هيبتهم من القلوب، وفضحوا شر فضيحة، ولم تغن عنهم معارفهم وتقنياتهم شيئا.
وتلك سنة الله تعالى في أمثالهم (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
أما بعد: فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل، وبالعمل الصالح الذي ينفعكم في دنياكم وأخراكم (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
أيها الناس: في القرآن من العظة والعبرة ما ليس في غيره من كلام الناس، وقصصه وأمثاله ليست كالقصص والأمثال الأخرى، فلا يذكر فيها إلا ما يحتاجه المكلفون مما يكون به صلاحهم في الحال والمآل، وما لا فائدة من معرفته فإن القرآن العظيم أهمل ذكره، وطوى عن الناس خبره، وهذا سبب من أسباب عدم الملال من تكرار القصة في القرآن، وكم يكرر المسلم في حياته من سورة يقرءوها، أو قصة في سورة، أو مثل مما ضربه الله تعالى للناس، وما يمل من ذلك، ولو كرر قصة من القصص البشرية أو مثلا من أمثال الحكماء لمل ذلك.
وسورة الكهف قد امتازت عن غيرها من السور بميزات عدة، وجاء فيها من الفضل والأجر ما لم يأت في غيرها، وإن كانت بعض السور أفضل منها كسورتي الفاتحة والإخلاص.
وسورة الكهف هي سورة يوم الجمعة؛ لأن المسلمين يقرءونها فيه؛ إتباعا للسنة، وتحريا للفضل، وطلبا للنور الذي يضيء لقارئها ما بينه وبين البيت العتيق، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وسورة الكهف قرأها أحد الصحابة رضي الله عنهم فوقعت له كرامة عظيمة وهو يقرأها؛ كما روى الشيخان من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال:(كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشَطَنَين فتغشَّتُه سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفِر، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: تلك السكينة تنزلت للقرآن)
وحفظ الآيات العشر الأولى من سورة الكهف، أو قراءة الآيات العشر الأخيرة منها سبب للعصمة من أكبر فتنة في البشرية، وهي الفتنة بالدجال، وكل ذلك ثابت في أحاديث صحيحة، ولم يرد مثل ذلك في غيرها من السور والآيات.
إن سورة الكهف قد عرضت لأربع قِصص فيها من العظة والعبرة ما فيها، وهي قصة أصحاب الكهف التي سميت السورة بها، وقصة صاحب الجنتين، وقصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وقصة ذي القرنين رحمه الله تعالى، وكل واحدة من هذه القصص الأربع قد عالجت فتنة من كبريات الفتن التي يسقط فيها كثير من الناس، فلا غرو أن تكون آيات منها سببا للعصمة من أكبر الفتن وهي فتنة الدجال.
إننا نتلوا في هذه السورة قصة أصحاب الكهف وهم فتية آمنوا بربهم في وسط أناس مشركين، وعلموا من حق الله تعالى عليهم ما علموا في قوم جاهلين؛ فكان ذلك سببا لفتنتهم في دينهم، فلم يستسلموا، ولم يتبعوا قومهم في ضلالهم، ولاوافقوهم على كفرهم؛ بل أعلنوا توحيدهم لله تعالى، كما أعلنوا براءتهم مما يعبد أهلوهم وعشيرتهم (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا).
ثم أتبعوا القول بالعمل فتبرءوا من المشركين واعتزلوهم، وآووا إلى كهف ليعبدوا الله وحده لا شريك له، وليفروا من الفتنة في الدين، فكان جزاؤهم في الدنيا تلك الكرامة العظيمة التي نالتهم وهم في كهفهم، فنجوا بها من الكفار وكيدهم، وكانت كرامة الله تعالى لهم آية تتلى على مر العصور.
وفي التعقيب على هذه القصة العظيمة يأمر الله تعالى بصحبة الصالحين من عباده، واصطبار النفس على ذلك ولو لم يكونوا أهل مال وثراء ودنيا، مع مجانبة أهل الغفلة، وأتباع الهوى الذين لا يردعهم دينهم عن هواهم (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا).
ونستفيد من ذلك أن من أسباب الثبات على الدين: صحبة الصالحين ممن ثبتوا على دينهم ولو كانوا هم الأقل والأضعف، كما فعل أصحاب الكهف؛ إذ جانب كل واحد منهم أهله وعشيرته المشركين وهم أكثر وأقوى، وصاحب المؤمنين وهم الأقلون المستضعفون، وفي صحبة الصالحين من التثبيت على الدين، والإعانة عليه، وتحصيل الخير ما لا يعلمه إلا الله تعالى قال بعض الصالحين: من أحب أهل الخير نال بركتهم، كلب أحب الصالحين ذكره الله تعالى في القرآن
كما نستفيد من هذا التعقيب: أن إتباع الهوى، وطاعة أهل الغفلة عن ذكر الله تعالى سبب للفتنة في الدين، والتحول عنه شيئا شيئا، كما أن سبب إتباع الهوى، وطاعة أهل الغفلة هو طلب حظ من حظوظ الدنيا . ولو أن فتية الكهف أطاعوا أهل الغفلة من قومهم، واتبعوا أهواءهم؛ ميلا إلى الدنيا وزخارفها لما نجوا، ولما كان خبرهم آية تتلى.
وما أحوج المسلم في هذا الزمن الذي يموج بالفتن إلى فقه هذا الدرس العظيم من هذه القصة العجيبة، فيثبت على دينه ولو رأى قلة الثابتين، ويضحي بكل نفيس في سبيل ذلك؛ فإن الثمن جنة عرضها السماوات والأرض، وليحذر من الاغترار بالباطل وأهله مهما كانت قوتهم، وبلغت علومهم؛ فهم وحضارتهم إلى تباب وخسران ما لم يؤمنوا بالله تعالى وحده لا شريك له.
والمال فتنة من أكبر الفتن التي افتتن الناس بها قديما وحديثا، وزادت الفتنة به في هذا العصر بسبب سيادة النظم الرأسمالية على أسواق المال والأعمال في العالم؛ إذ حولته في عقول أتباعها من وسيلة ينتفع بها إلى غاية تلغى في سبيلها كل المبادئ والقيم والأخلاق. ونجد علاج هذه الفتنة في قصة صاحب الجنتين الذي أنعم الله تعالى عليه بما وصف في تلك السورة(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا) ولكنه افتتن بذلك، ونسي أمر الساعة، وتكبر على الناس بماله (فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً).
فكان ثمرة افتتانه بماله، ونتيجة علوه على الناس بسببه أن أذهب الله تعالى زهرة جنته، وجعلها خرابا يبابا (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنتَصِراً).
وبعد قراءة هذه القصة العجيبة نجد أن الله تعالى قد ضرب مثلا عظيما في الدنيا؛ بيانا لحقيقتها، وإثباتا لزوالها، وتحذيرا من الغرور بها (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا) ثم ذكر سبحانه الآخرة والحساب، والكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
فمن فتن بالمال فعطل الفرائض من أجله، وجاوز الحلال إلى الحرام في جمعه وإنفاقه، واستعلى على الناس به؛ فليأخذ عبرة وعظة من قصة صاحب الجنتين، ولينعم النظر في المثل الذي ضربه الله تعالى للدنيا عقب ذلك، وليتدبر الآيات التي تخبر عن شدة الحساب والكتاب الذي يحصي الصغيرة والكبيرة؛ فإنه إن فعل ذلك خاف المال وكثرته، وحاذر من فتنته.
ومن فتن هذا العصر: الفتنة بما فتح الله تعالى على البشرية من أنواع العلوم والمعارف التي قادت كثيرا من الناس إلى الكفر بالله تعالى، وتكذيب آياته، والإلحاد في أسمائه وصفاته؛ فزعم المفتونون بهذه العلوم والمعارف أن الإنسان هو مركز الكون، ومحور الوجود، وأنه سيطر على الطبيعة، وأنه لا وجود إلا للمادة، في إلحاد صارخ، وإلغاء لعالم الغيب، وإنكار للآخرة، بل زعم بعض ملاحدة هذا العصر أن الإنسان سيسيطر على الموت، وسيكتشف بلسم الحياة.
لقد فتنوا أشد الفتنة بالعلوم العصرية، وبسببها عبدوا الدنيا، وتركوا النظر في الموت وما بعده فنسوا الآخرة.
وقد يفتن الإنسان بالعلوم الشرعية فلا ينتفع بها قلبه، ولا تزيد إيمانه، ولا تقوده إلى ما يحبه الله تعالى ويرضاه من الأقوال والأعمال، وذلك حين يغتر العالم بعلمه، ويستعلي به على غيره، ويجعله مطية لدنياه، فيحرف الكلم عن مواضعه ليرضي الأهواء، وينصر الباطل على الحق، ويعتد برأيه ولو كان مخالفا للنصوص والإجماع.
ونجد علاج هذه الفتنة العظيمة في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام؛ فنبي الله موسى عليه السلام، كليم الله جل جلاله، وهو من أولي العزم، وقد فضل على أكثر الرسل عليهم السلام، وأيده الله تعالى بالمعجزات، وأظهر على يديه الآيات، ودحر به السحرة وعلومهم، ومع ذلك كله لم يتكبر بما أعطاه الله تعالى من أنواع العلوم والمعارف، وما أجرى على يديه من الآيات والمعجزات، بل تواضع لله تعالى، ورحل يطلب العلم على يد الخضر عليه السلام، وقال مقولة التلميذ المطيع لأستاذه (سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا)
يقول موسى ذلك للخضر عليهما السلام وهو أفضل وأعلم بالله تعالى منه، وهو رسول والخضر عبد صالح، لكنْ عنده علم لا يعلمه موسى، فتعلم موسى عليه السلام منه.
ولما علَّم الخضر موسى عليهما السلام مما علمه الله تعالى لم يغترَّ بعلمه، بل نسب ذلك إلى الله تعالى؛ اعترافا بفضله، وحمدا له فقال (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي).
وما أحوج من فتنوا بالعلوم العصرية أن يعترفوا بفضل الله تعالى عليهم، وينسبوا علومهم إليه، ويسخروها في ذكره وشكره وحسن عبادته، فهو سبحانه الذي علمهم ما لم يكونوا يعلمون (عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ).
ولكن أهل الحضارة المعاصرة أعرضوا عن ذلك، ولم ينسبوا الفضل إلى الله تعالى فيما أعطوا من العلوم والمعارف، وما ملكوا من أسباب القوة والهيمنة، بل نسبوا ذلك إلى أنفسهم وإلى تجاربهم وخبراتهم، ولم يسخروا معارفهم وقوتهم في عبادة الله تعالى، ورفع الظلم، وإقامة العدل، بل سخروها في محاربة الله تعالى، ونشر الفساد، وظلم العباد، وقهر الناس والسعي في تبديل دينهم، وإفساد فطرهم وعقائدهم وأخلاقهم، والتسلط على بلدانهم، ونهب ثرواتهم، فما زادتهم علومهم وحضارتهم إلا إفسادا في الأرض، وعلوا على الناس، فجرت عليهم سنة الله تعالى التي جرت على أسلافهم من قبل، وبدت بوادر هزيمتهم وإذلالهم، وظهور المستضعفين عليهم، وأتاهم الله تعالى من حيث لم يحتسبوا؛ فكانت رفاهيتهم التي نتجت عن علومهم وحضارتهم سبب خورهم وضعفهم، وعدم قدرتهم على مقارعة أعدائهم، فكسرت شوكتهم على الملأ، وزالت هيبتهم من القلوب، وفضحوا شر فضيحة، ولم تغن عنهم معارفهم وتقنياتهم شيئا.
وتلك سنة الله تعالى في أمثالهم (اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا) بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما هدى، والشكر له على ما أعطى وأسدى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعتبروا بأحوال الذين مضوا من قبلكم، وأحسنوا التلقي عن كتاب ربكم.
أيها الناس: من أعظم الفتن التي يضعف أمامها أكثر البشر فتنة السلطان الغالب، والقوة القاهرة، التي تقود إلى البطش والظلم والأثرة، ونجد علاج هذه الفتنة الكبيرة في القصة الرابعة من هذه السورة العظيمة، وهي قصة ذي القرنين، الذي ملك مشارق الأرض ومغاربها، ودانت له الدول والممالك، وآتاه الله تعالى من كل شيء سببا، ومع ذلك لم يتجبر بسلطانه، ولا استعلى على الناس بقوته؛ بل سخر ذلك في إحقاق الحق، وإزهاق الباطل، وإقامة العدل، ورفع الظلم، ونصر المظلوم.
وثبت إيمانه وعدله، وصلاحه وإصلاحه في قوم ظهر عليهم فملك مدينتهم، وذلت له رقابهم، وخيره الله تعالى فيهم، فحكم فيهم بحكم الشريعة (وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا ).
وظهر تسخيره لسلطانه وقوته فيما يحبه الله تعالى ويرضاه من رفع الظلم، ونصرة المستضعفين، في قوم من الترك شكوا إليه إغارة يأجوج ومأجوج عليهم، والإفساد في بلادهم، ورجوه أن يبني حاجزا يحجزهم عنهم مقابل خراج يدفعونه إليه، فعفَّ رحمه الله تعالى عن جُعْلِهم، وبادر إلى نجدتهم، ورفع الظلم عنهم، وبناء السد لهم، معترفا بفضل الله تعالى عليه بالسلطان والمال (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا) أي:ما أعطاني ربي من الملك والمال خير من خراجكم، وطلب معونتهم على بناء السد فبناه لهم، ولما أتم بناءه لم يفاخر بذلك، أو يعلن به على الملأ، أو يمنَّ به على القوم؛ ليكتسب بذلك دعاية، أو يظهر به قوة، أو يحوز به شرفا، أو يسجله في سجل إنجازاته، بل نسب الفضل في ذلك لله تعالى صاحب الفضل والمنِّ، واعترف بقدرة الله تعالى على هذا السد وتدميره في أجلٍ لا يعلمه إلا هو سبحانه وتعالى (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا).
إن سورة الكهف قد عالجت في قصصها هذه الفتن الأربع: فتنة الشرك في قصة الفتية، والفتنة بالمال في قصة صاحب الجنتين، والفتنة بالعلم والمعرفة في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، وفتنة السلطان في قصة ذي القرنين، ولو نظرنا في حال أكبر فتنة حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم وهي فتنة الدجال لوجدنا أن هذه الفتن الأربع قد اجتمعت كلها في الدجال:
فهو يفتن الناس في دينهم، ويدعوهم إلى الشرك، ويقهرهم عليه، وأعطاه الله تعالى من الآيات ما يكون فتنة للناس وابتلاء:
ففي فتنة المال يمر الدجال بالخربة فتتبعه كنوزها، ويأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت.
وفي فتنة العلم يخبر الدجال الرجل عن أبيه وأمه، ويقطع الرجل بسيفه حتى يمشي بين نصفيه ثم يدعوه فيأتي، ويشق الرجل بمنشاره من مفرق رأسه إلى قدميه ثم يعيده بأمر الله تعالى كما كان.
وفي فتنة السلطان يعيث في الأرض فسادا، ويسلط على الناس، وما من بلد إلا يبلغها سلطانه خلا مكة والمدينة، ويفر الناس إلى الجبال خوفا من سلطانه وبطشه.
فحري بمن كان من أهل سورة الكهف: قارئا لها، متدبرا لآياتها، عارفا بقصصها، حافظا للآيات العشر من أولها أن يحفظ من فتنة الدجال، فلا يغترُّ بكذبه وبهرجه، ولا تنطلي عليه أفعاله وما سخر الله تعالى له من الآيات، ولا يزدادُ فيه وفي فتنته إلا بصيرة على بصيرته، وإيمانا بالله تعالى مع إيمانه.
فاعرفوا - رحمكم الله تعالى - لهذه السورة قدرها، وتدبروا آياتها، وانتفعوا بقصصها، ولا سيما أنكم تكررونها في كل جمعة، واحفظوها فإن عجزتم فاحفظوا من آياتها ما يعصمكم من فتنة الدجال؛ فإنه شر غائب ينتظر.
وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم
...
المصدر : شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الخميس، 27 ديسمبر 2012 ' الساعة