الأربعاء، 26 ديسمبر 2012

الأمانة
الشيخ ندا أبو أحمد
بسم الله الرحمن الرحيم
أحبَّتي في الله:
إنَّ هذا الموضوع من الأهميَّة بمكان، خُصوصًا في هذا الزمان.
إنَّ الأمانة من أجلِّ الأخلاق الإسلاميَّة التي بُنيت عليها شريعةُ ربِّ البريَّة، وبالأمانة تُصانُ الأعْراض والأموال والدِّماء وجميع حُقوق العِباد، وبها يستَقيمُ حال الناس مع رَبِّ العالمين؛ لأنَّ الأمانة تَعُمُّ جميعَ وَظائف الدِّين؛ كما قال القرطبي في "تفسيره"[1].
ويقول الكفويُّ - رحمه الله -[2]: الأمانة كلُّ ما افتَرَض الله على العِباد، فهو أمانةٌ كالصلاة والزكاة والصيام وأداء الدَّيْن، وأوكدها الوَدائع، وأوكد الودائع كتمُ الأسرار.
وقال في موضعٍ آخَر: كلُّ ما يُؤتَمن عليه من أموالٍ، وحُرمٍ وأسرار فهو أمانةٌ، وقال ابن عباسٍ - رضِي الله عنه -: المقصود بالأمانة التكاليف - وهذا هو قول الجمهور.
وتأتي الأمانة ويُراد بها رفعُ الجنابة:
فقد أخرَج أبو داود عن أبي الدَّرداء - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((خمسٌ مَن جاءَ بهنَّ من إيمان دخَل الجنَّة: مَن حافَظ على الصَّلوات الخمس على وُضوئِهنَّ ورُكوعِهنَّ وسُجودِهنَّ ومَواقيتِهنَّ، وصام رمضان، وحَجَّ البيت إنِ استطاع إليه سبيلاً، وأعْطى الزكاة طيِّبةً بها نفسُه، وأدَّى الأمانَةَ))، قالوا: يا أَبا الدَّرداءِ، وما أَداءُ الأمانِة؟ قال: الغُسلُ من الجنابَةِ[3].
والأمانة تأتي في القُرآن ويُراد بها ثلاثة أمور، ذكرهم ابن الجوزي في كتابه "نزهة الأعين النواظر" نقلاً عن بعض المفسِّرين:
الأول: الفرائض: ومنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ [الأنفال: 27].
الثاني: الوديعة: ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
الثالث: العِفَّة: ومنه قوله تعالى: ﴿ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].
وهذا في شأن موسى - عليه السلام - فالأمانة شرطٌ أساسٌ لاصطِفاء الرُّسل بالرسالة.
فالأمانة من أبرز أخلاق الرسل:
فها هو نبيُّ الله هود - عليه السلام - لَمَّا دعا قومَه وأبَوْا أنْ يستَجِيبوا لداعي الله واتَّهموه بالسَّفاهة والكذب؛ ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴾ [الأعراف: 67، 68].
قال ابن كثيرٍ في "تفسيره"[4]: وهذه الصِّفات التي يتَّصف بها الرسل (البلاغ والنُّصح والأمانة).
بل لقد جاء جميعُ الرسل وأخبروا قومَهم بأمانَتِهم في تبليغ الرسالة إليهم:
فقال نبي الله نوح - عليه السلام - لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 107].
وقال نبيُّ الله هود - عليه السلام - لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 125].
وقال نبيُّ الله صالح - عليه السلام - لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 143].
وقال نبيُّ الله لوط - عليه السلام - لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 162].
وقال نبي الله شعيب - عليه السلام - لقومه: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 178].
وقال نبيُّ الله موسى - عليه السلام - لقومه: ﴿ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الدخان: 18].
وقد قِيل في قوله تعالى: ﴿ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ ﴾ [الشعراء: 107]؛ أي: لا يخون ولا يخدع ولا يغش، ولا يزيد شيئًا أو ينقص شيئًا ممَّا كُلِّفه من التَّبليغ.
لقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُلقَّب قبلَ البعثة بالصادق الأمين، وهل كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لا يمتلكُ إلا هاتين الصِّفتين؟
بل كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يجمعُ كلَّ الصفات الحسنة، ولكن لَمَّا كانت صفة الصِّدق وصفة الأمانة من أعظم الصِّفات لُقِّبَ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالصادق الأمين، وكان الناس يَختارُونه لحفْظ وَدائعهم، ولَمَّا هاجَر - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكَّل عليَّ بن أبي طالبٍ بردِّ الودائع إلى أصحابها.
فالأمانة صِفهٌ تَميَّز بها النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ودَعَا إليها.
فقد أخرج البخاري ومسلم: عن عبدالله بن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قال: "أخبرَنِي أبو سُفيان أنَّ هِرقلَ قال له: سألتُك ماذا يأمُرُكم فزعَمتَ أنَّه يأمُر بالصَّلاة والصِّدق والعَفاف والوفاء بالعهد وأداءِ الأمانة، قال: وهذه صفةُ نَبِيٍّ".
وأخرج الأمام أحمدُ: عن أمِّ سلمة - رضِي الله عنها - في حديث هجرة الحبَشة، ومن كلام جعفَرٍ في مُخاطَبة النجاشيِّ، فقال له: أيُّها الملك، كُنَّا قومًا أهلَ جاهليَّة، نعبُد الأصنام، ونأكُل الميتَة، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرحام، ونُسِيءُ الجوار، يأكُل القويُّ منَّا الضعيف، فكُنَّا على ذلك حتى بعَث الله إلينا رسولاً منَّا، نعرفُ نسَبَهُ وصِدْقَهُ وأمانتَه وعَفافَه، فدعانا إلى الله، لنُوحِّدَهُ ونعبُدَه، ونخلع ما كُنَّا نعبدُ نحن وآباؤنا من دُونه من الحجارة والأوثان، وأمرَنا بصِدق الحديث وأداء الأمانة وصِلة الرَّحِم وحُسن الجوار، والكفِّ عن المَحارِم والدِّماء، ونَهانا عن الفَواحش، وقول الزُّور، وأكْل مال اليتيم، وقذْف المحصَنة، وأمَرَنا أنْ نعبُدَ الله وحدَه لا نشرك به شيئًا، وأمَرَنا بالصلاة والزَّكاةِ والصِّيامِ، قال: فعدَّد عليه أمُورَ الإسلام، فصَدَّقناهُ وآمَنَّا، واتَّبعناهُ على ما جَاءَ به..." الحديث.
وأخرج الترمذيُّ والنسائيُّ: عن عائشة - رضِي الله عنها - قالت: كان على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثَوْبانِ قطريَّانِ غَلِيظانِ، فكان إذا قعَد فعرقَ، ثَقُلا عليه، فقَدِم بَزٌّ[5]من الشام لفلانٍ اليهوديِّ، فقلت: لو بَعَثْتَ إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرةِ، فأرسل إليه فقال: قد علمْتُ ما يريد، إنما يريدُ أنْ يذهب بمالي أو بدَراهمي، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كَذَبَ؛ قد عَلِمَ أنِّي من أتقاهُم لله وآداهُمْ للأمانَِة))[6].
وكان - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقولُ عن نفسه: ((أمَا والله إنِّي لأمينٌ في السَّماء وأمينٌ في الأرض))[7].
وعند البخاري بلفظ: ألا تأمَنُوني وأنا أمينُ مَن في السماءِ، يأتيني خبرُ السماء صباحًا ومساءً؟)).
وقال - جلَّ وعلا - عن جبريل - عليه السلام - أمينِ الوحي الذي ينزلُ بالوحي على أنبيائه: ﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ﴾ [الشعراء: 193].
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره[8]: وهو جبريل - عليه السلام - قال مجاهد: أي: نزَل به مَلَكٌ كريم أمين ذو مكانةٍ عند الله ﴿ على قلبك ﴾ يا محمد سالمًا من الدَّنس والزيادة والنقص.
الأصل في الإنسان أنَّه أمين:
فالله - عزَّ وجلَّ - أنزَل الأمانةَ فوضَعَها في أصْل قُلوب الناس، ثم نزَلتِ الشَّرائع التي أنزَلَها الله في كتبه وجاءت بها رسلُه؛ لتُنمِّي هذا الأصلَ وتُزكِّيه.
ولكنَّ كثيرًا من الناس انحرَفَ عن هذا الأصل؛ إمَّا لظُلمه أو جهلِه، فخانَ وضيَّع الأمانة التي حُمِّلَها، وهذا خِلافُ الأصل.
يقول محمد رشيد رضا في تفسيره "المنار"[9]: الأصل أنْ يكون الناس أُمَناء يقومون بوازع الفِطرة والدِّين، والخيانةُ خِلافُ الأصل، ا.هـ.
وممَّا يدلُّ على أنَّ الأمانة هي الأصل، وأنها مركوزةٌ في الفِطرة ما أخرَجَه البخاري ومسلمٌ عن حُذيفة - رضِي الله عنه - قال: حدَّثَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حديثين؛ رأيت أحدَهما، وأنا أنتظِرُ الآخَر: حَدَّثَنا أنَّ الأمانةَ نزلتْ في جَذْرِ[10]قُلوبِ الرِّجال، ثم عَلِموا من القُرآن، ثم عَلِمُوا من السُّنَّة، وحدَّثَنا عن رفعها، قال: ينامُ الرَّجلُ النومة فتُقبَضُ الأمانةُ من قلبه، فيَظلُّ أثَرُها مثل أثَر الوَكْت[11]، ثم ينامُ النومة فتُقبضُ، فيبقى أثرُها مثل المَجْل[12]، كجمرٍ دحْرجْتَه على رجْلِك فنَفِطَ[13] فتراه مُنْتَبِرًا[14]وليس فيه شيءٌ، فيُصبحُ الناس يَتبايَعُون، فلا يَكادُ أحدهم يُؤدِّي الأمانة، فيُقالُ: إنَّ في بَني فُلانٍ رجلاً أمينًا، ويُقال للرجل: ما أعقَلَهُ، وما أظرَفَهُ، وما أجلدهُ! وما في قلبه مثقَالُ حبَّة خَردلٍ من إيمانٍ، ويقول حُذَيفة: ولقد أتى زمانٌ وما أُبالي أيَّكم بَايعتُ، لئنْ كان مسلمًا رَدَّهُ عليَّ الإسلام، وإنْ كان نصرانيًّا رَدَّهُ عليَّ ساعيه، فأمَّا اليوم فما كنتُ أُبايعُ إلا فُلانًا وفُلانًا".
قيل: إنَّ الأمانة المقصودة في الحديث هي أمانةُ الهداية والمعرفة والإيمان بالله.
يقول القاضي ابن العربي - رحمه الله -: المرادُ بالأمانة في حديث حُذيفةَ الإيمانُ، وتحقيقُ ذلك فيما ذكر من رَفْعِها أنَّ الأعمال السيِّئة لا تزالُ تُضعِفُ الإيمان، حتى إذا تَناهَى الضعف لم يبقَ إلا أثرُ الإيمان؛ وهو التلفُّظ باللسان والاعتقاد الضعيف في باطن القلب، فشبَّهه بالأثر في ظاهر البدن، وكنى عن ضعف الإيمان بالنوم، وضرب مثلاً لزهوق الإيمان عن القلب حالاً بزهوق الحجر عن الرجل حتى يقع بالأرض.
إذا ضُيِّعتِ الأمانة فلا أمان:
ففي الحديث السابق بيَّن فيه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الأمانة ستُقبَضُ من قُلوب الرجال، ولا يَبقَى إلا أثَرُها، وهذا أوَّل ما نفقدُه من الدِّين.
فلقد أخبر الرسولُ الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال كما عند الطبراني من حديث شدَّاد بن أوس - رضِي الله عنه -: ((أوَّل ما تَفقِدون من دِينكم الأمانةُ))؛ "صحيح الجامع": 2570.
وفي روايةٍ أخرى عند العجلوني في "كشف الخفاء" وعَزاه للحكيم الترمذي: ((أوَّلُ ما يُرفَع من الناس الأمانةُ، وآخِر ما يَبقَى من دِينهم الصَّلاة، ورُبَّ مُصَلٍّ لا خَلاقَ له عند الله تعالى))؛ حسَّنَه الألباني في "صحيح الجامع": 2575.
وكان عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - يقول: لا يعجبنَّكم من الرجل طَنْطَنته - يعني: صلاته - ولكن مَن أدَّى الأمانة وكَفَّ عن أعراض الناس فهو الرَّجُل[15].
وبلفظٍ آخر - كما في "الحلية" -: لا تنظُروا إلى صِيام أحدٍ ولا صَلاته، ولكنِ انظُروا إلى صِدْق حَديثِه إذا حدَّث، وأمانته إذا اؤتمِن، ووَرَعِه إذا أَشْفَى[16].
الأمانة دليلٌ على إيمان العبد:
فقد أثنَى الله - عزَّ وجلَّ - في أكثر من آيةٍ على رعاية المؤمنين للأمانة، وفي هذا إعلاءٌ لشَأنها، من هذا الثَّناء قولُه تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8]، فجعَلَها صفةً بارزةً للمؤمنين.
قال ابن كثيرٍ - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: "إنَّ المؤمنين إذا اؤتمنوا لم يخونوا، بل يؤدُّونها إلى أهلها، وإذا عاهَدُوا أو عاقَدُوا أَوْفوا بذلك".
وجمَع الله الأمانات باعتبار تَعدُّد أنواعها وتعدُّدِ القائمين بحِفظها؛ وذلك تنصيصٌ على العُموم، والحِكمة في جمْع الله تعالى الأمانةَ دُون العهد - والله أعلم - أنَّ الأمانة أعمُّ من العهد؛ ولذا فكُلُّ عهدٍ أمانةٌ"[17].
وهناك علاقةٌ وثيقة بين الإيمان والأمانة، وقد ربَط بينهما النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أخرج أحمد والترمذي عن أبي هُريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المسلمُ مَن سَلِمَ المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن مَن أَمِنَه الناس على دِمائهم وأموالهم))[18].
أخرج ابن ماجه وأحمد وابن حبَّان عن فضالة بن عُبَيْدٍ قال: قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((المؤمنُ مَن أَمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر مَن هَجَر الخطايا والذُّنوب))[19].
وكان عُروة بن الزبير - رضِي الله عنهما - يقول: ما نقصَتْ أمانةُ الرجل إلا نقَص إيمانُه.
بل أعلَنَها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وبيَّن أنَّه لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له؛ فقد أخرج الإمام أحمدُ وابن حبان عن أنسٍ - رضِي الله عنه - قال: ما خطبنا رسول الله إلاَّ قال: ((لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِين لِمَن لا عَهْدَ له))[20].
وبهذا تعلمُ أخي الحبيب أنَّ المؤمن صادقَ الإيمان لا يُتصوَّر منه خِيانةٌ؛ فقد أخرج البيهقيُّ في "سننه" وأبو يَعلى في "مسنده" عن سعد بن أبي وقاصٍ - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُطبَعُ المؤمِنُ على كُلِّ خلَّةٍ غيرَ الخيانة والكذب))، قال الحافظ: سنده قوي (10/508).
أحبَّتي في الله، إنَّ مجالات الأمانة كثيرةٌ، وقبل أنْ نتكلَّم عنها لا بُدَّ أنْ نعلم أنَّ...
العقل أمانة:
"اتِّصاف المرء بالعقل وتسخيرُه في طاعة الله - عزَّ وجلَّ - أمانةٌ كُبرى يُثابُ عليها؛ لذا كان من رِعاية الإسلام لأمانة العقل أنْ جعَلَه إحدى الضروريَّات الخمس - ومنَع أيَّ فِعْلٍ يُعطِّل مُهِمَّته، وحَرَّمَ حِفظًا له كلَّ ما يضرُّ بمهمَّتِه ولو لفترةٍ محدودة؛ فقد حرَّم كلَّ مُسْكرٍ ومُخدِّرٍ ممَّا يُخامِرُ العقل ويُغطِّيه؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، ومن أجل صِيانة العقل شُرعت عُقوبةُ جَلْدِ شارب الخمر لردْع مُتناوِله، وزجر كُلِّ ما يَسعَى إلى الإضرار بأمانة العقل ولو لفترةٍ محدودة.
أمَّا تعطيل العقل بالكليَّة بأيِّ سببٍ يُؤدِّي إلى ذهابه، فقد عاقَب الشرع فاعلَه بالدِّية كاملةً رعايةً لَهُ.
قال ابن قدامة: "في ذهاب العقل الدِّيَةُ، لا نعلمُ في هذا خِلافًا، وكتب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لعمرو بن حزمٍ - رضِي الله عنه -: ((وفي العقل الدِّيَةُ))"[21].
وتظهر عِلَّة هذه العُقوبة بأنَّه أكبرُ المعاني قَدْرًا، وأعظم الحواس نفعًا، وبه يُميَّز بين النافع والضار، والحقِّ والباطل.
قال ابن القيم - رحمه الله -: "إنَّ امتناع السَّماوات والأرض والجبال من حمل الأمانة لأجْل خُلُوِّها من العقل الذي يكونُ به الفهم والإفهام، وحُمِّلَ الإنسان إيَّاها لمكان العقل فيه"[22].
ومن الأمثلة العظيمة لأمانة العقل أنَّه لَمَّا عزَم أبو بكرٍ الصِّدِّيق - رضِي الله عنه - على جمع القُرآن، قال لزيد بن ثابت - رضِي الله عنهما -: "إنَّك رجلٌ شاب عاقل لا نتَّهمُكَ، قد كنت تكتبُ الوحي لرسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتتبَّع القُرآن فاجمَعْه"[23].
فكان أوَّل ما حمَل أبا بكرٍ - رضِي الله عنه - على اختيار زَيْدٍ ما اتَّصف به من أمانة العقل.
قال المهلَّب مُعقِّبًا على قول أبي بكرٍ - رضِي الله عنه -: "إنَّ العقل أصلُ الخِلال المحمودة؛ لأنَّه لم يصفْ زيدًا بأكثر من العقل، وجعَلَه سببًا لائتمَانه ورفع التُّهمة عنه"[24].
ومن حِفظ أمانة العقل أنْ يُزكِّيه الإنسانُ ويُوظِّفه ويُعلِي همَّتَه في ذلك بأنْ يُوجِّهه إلى آيات الله الكونيَّة، وفي النفس البشريَّة، وارتياد أوسع الآفاق لخِدمة الناس في الحياة الدُّنيا وبناء الحَضارة الإسلاميَّة، وفوق هذا معرفة أسرار الشريعة، والفهْم في كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه - صلَّى الله عليه وسلَّم.
وعلى هذا نقول: إنَّ مَن عطَّل العقلَ وغيَّبَه عن مُهمَّته فقد ضيَّع الأمانة التي سيُسأل عنها يومَ القيامة.
الجوارح أمانة؛ عينُك، وسمعك، وبصرك، ويدك، ورجلك، وفرجك، ولسانك، وأنفك:
قال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾ [الإسراء: 36].
فستُسأَل عن هذه الأمانات: هل أدَّيت حَقَّها أو ضيَّعت هذا الحقَّ؟ هل أديت حقَّ هذه الأمانة؟
لكلِّ جارحة عبوديَّةٌ، ومَن نظَر إلى حرامٍ، أو سَمِع حَرَامًا، أو تكلَّم بحرامٍ، أو ذاقَ حَرامًا، أو أكَل حرامًا، أو شَمَّ حَرامًا، فقد أخَلَّ بالأمانة.
يقول أبو حامدٍ الغزالي: اعلم أنَّك تَعصِي الله بِجَوارِحك، وإنما هي نعمةٌ من الله عليك، وأمانةٌ لديك، فاستِعانتُك بنعمة الله تعالى على معصيته غايةُ الكُفران، وخِيانتك في أمانةٍ أودَعَكَها الله تعالى غايةَ الطُّغيان، فأعْضاؤك رعاؤك، فانظُر كيف ترعاها؛ ((ألا فكُلُّكُم راعٍ، وكُلُّكُم مَسْؤُولٌ عن رَعِيَّتِهِ))[25].
المال أمانة:
وإذا كان الله - سبحانه وتعالى - قد استَخلَف الإنسانَ في المال ووَضَعَه في يده وتحتَ تصرُّفه، فليس معنى ذلك أنَّ له مطلقَ الحريَّة من التصرُّف فيه بحيث يضَعُه حيث شاء أو يُنفِقه كيف شاء؛ لأنَّ المال في حقيقة الأمر مالُ الله، والإنسان خليفتُه في ذلك؛ كما قال الله تعالى: ﴿ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ ﴾ [الحديد: 7]، وما دام الإنسان قد استَخلَفه الله تعالى على هذا المال فلا بُدَّ أنْ يَضَعَه أو يتصرَّف فيه حيث أمَرَه مالِكُه، وإلا فسوف يكون مسؤولاً عن ضَياعه أو تقصيره في المحافظة عليه؛ فقد أخرَجَ الترمذي أنَّ الحبيب النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا تزولُ قدَما ابن آدم يوم القيامة حتى يُسأَل عن خمسٍ: عن عُمره فيمَ أفْناه، وعن شَبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وماذا عمل فيما عَلِمَ)).
وما دام الإنسان سيُسأَل عن هذا المال من أين اكتسَبه وفيمَ أنفقه فلا بُدَّ أنْ يكون كسبُه حَلالاً، وإنفاقُه في طاعة الرحمن، ساعتَها يكون المال نعمةً عليه ويُغبَط بهذه النِّعمة.
كما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا حَسَدَ إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلَّطَه على هلكَتِه في الحقِّ[26]، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يَقضِي بها ويُعلِّمها)).
ومعنى الحديث: إنَّه ينبغي ألا يُغبَط أحدٌ إلا على إحدى هاتين الخصلتين، ومَن كان معه مالٌ فأنفَقَه في طاعة الرحمن فهو بأفضل المنازل؛ كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد والترمذي: عن أبي كبشة الأنماري - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثٌ أُقسِمُ عليهنَّ: ما نقص مالُ عَبْدٍ من صدقةٍ، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلَمةً صَبَر عليها إلا زادَه الله - عزَّ وجلَّ - عِزًّا، ولا فتَح عَبْدٌ بابَ مَسْألةٍ إلاَّ فتح الله عليه بابَ فَقْرٍ، وأُحدِّثُكم حديثًا فاحفَظُوه: إنَّما الدنيا لأربعة نَفَرٍ: عبد رزَقَه الله مالاً وعِلْمًا فهو يَتَّقي فيه ربَّه، ويصلُ فيه رَحِمَهُ، ويعملُ لله فيه حقًّا، فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزَقَه الله تعالى عِلْمًا ولم يرزُقه مالاً، فهو صادِقُ النِّيَّة، يقولُ: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلْتُ بعَمَل فُلانٍ، فهو بنيَّته، فأجرُهما سواء، وعبد رزَقَه الله مالاً، ولم يَرزُقه علْمًا، يخبِطُ في مالِهِ بغير علمٍ؛ لا يتَّقي فيه ربَّه، ولا يَصل فيه رَحمَه، ولا يعمل لله فيه حَقًّا، فهذا بأخبَثِ المنازل، وعبد لم يرزُقْه الله مالاً ولا عِلْمًا فهو يقول: لو أنَّ لي مالاً لعَمِلتُ فيه بعملِ فُلانٍ، فهو بنيَّتِه، فوِزرُهما سواء))[27].
العلم أمانة:
والعلم أعظمُ أمانةٍ حملَها الإنسان.
وهذه الأمانة حمَلَها العلماء، وهذا جعلَهُم يُواصِلون الليلَ بالنَّهار لدعوة النَّاس؛ يُبصِّرون أبناء الأمَّة بدِينهم، ويَصِفون الطريق للسَّالِكين، ويهدون إليه المتحيِّرين.
وأمانة العلم جعَلت العلماء يصدَعُون بكلمة الحقِّ ولا يخافون في الله لومةَ لائمٍ؛ عملاً بقوله - تعالى -: ﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: 187].
ومخافة من قوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 159، 160].
وأيضًا مخافةً من قول النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن سُئِلَ عن علمٍ فكتَمَه ألجَمَهُ الله يوم القيامة بلجامٍ من نار))؛ رواه ابن ماجه من حديث أبي هُريرة - رضِي الله عنه.
ومن أمانة العلم كذلك أنْ يتربَّى الإنسان على نصف العلم، وهي قول: "لا أدري"؛ حتى لا يُفتي الناسَ بغير علم فيَضل ويُضل.
فقد أخرج البخاري ومسلم: عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله تعالى لا يَقبِضُ العِلْم انتِزاعًا ينتزعُهُ من العباد، ولكن يقبض العلمَ بقبضِ العلماءِ، حتى إذا لم يُبقِ عالمًا اتَّخذ الناس رُؤوسًا جُهَّالاً، فسُئِلُوا، فأفْتَوْا بغير علم، فضلُّوا وأضَلُّوا)).
ومن أعظم الخيانة لأمانة العلم أن يُتعلَّم العلم الشرعي لغير وجه الله تعالى؛ فمَن فعَل ذلك فحرامٌ عليه الجنَّةُ.
فقد أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبي هُريرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن تَعلَّم عِلمًا ممَّا يُبتغَى به وجهُ الله لا يتعلَّمُه إلاَّ ليُصيب به عِوَضًا من الدُّنيا، لم يَجِدْ عَرْفَ الجنَّة يوم القيامة))[28].
ولأنْ يَطلُب العَالِم الدُّنيا بطبلٍ ومِزمار خيرٌ له من أنْ يُدنِّس وجهَ العلم بطلب فتات مَوائد أبناء الدُّنيا من السَّلاطين وأصحاب الجاه، وتدبيج فَتاوى الزور، وتأويل النُّصوص وَلَيِّ عُنقها حسَب أَمزِجة أبناء الدُّنيا.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ العِلْمِ صَانُوهُ صَانَهُمْ
وَلَوْ عَظَّمُوهُ فِي النُّفُوسِ لَعُظِّمَا
أَأَشْقَى بِهِ غَرْسًا وَأَجْنِيهِ ذِلَّةً
إِذًا فَاتِّبَاعُ الجَهْلِ قَدْ كَانَ أَحْزَمَا
وهؤلاء هم أئمَّة الضَّلال وعُلَماء السوء الذين كان يَخافُ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - علينا منهم؛ فقد أخرج الأمام أحمد عن أبي ذَرٍّ - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((غيرُ الدَّجَال أَخْوَفُ على أمَّتي من الدَّجَّال؛ الأئمَّة المُضِلُّون))[29].
وحيث إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - حرَمَهم من الجنَّة فليس لهم مآلٌ إلا النار وغضب الجبار.
فقد أخرج ابن ماجه عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن تَعَلَّم العِلْم ليُباهي به العُلماء، أو يُماري به السفهاءَ، أو ليَصرِفَ به وجوه الناس إليه، أدخَلَه الله جهنَّم))[30].
بل هم أوَّل مَن ستُسَعَّرُ بهم النار كما أخبر بذلك الحبيب المختار - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أخرج الأمام مسلمٌ في حديثٍ طويل عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أوَّل الناس يُقضَى يوم القيامة عليه...)) ثلاثة، وذكر من جُملتهم: ((ورجلٌ تعلَّم العلمَ وعلَّمَه، وقرأ القُرآن فأتى به فعرَّفَه نِعَمَه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال تعلَّمت العلم وعلَّمته، وقرأت فيك القُرآنَ، قال: كذبت، ولكنَّك تعلَّمت العلم ليُقال: عالم، وقرأت القُرآن ليُقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أُمر به فسُحِبَ على وجهه حتى أُلقي في النار)).
وهؤلاء أوَّل مَن ستُسعَّر بهم النار.
ففي رواية الترمذي أنَّ أبا هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: ثم ضرَب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على رُكبتي فقال: ((يا أبا هُرَيرة، أولئك الثلاثة أوَّل خلْق الله تُسَعَّرُ بهم النار يوم القيامة)).
((تُسَعَّر بهم النار))؛ أي: تُوقد بهم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 24].
العبادة أمانة:
عرَّف شيخُ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله - العبادة فقال: هي اسمٌ جامع لكلِّ ما يحبُّه الله ويَرْضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة؛ فالصَّلاة، والزكاة.. وصِدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين.. وأمثال ذلك من العبادة، ا.هـ[31].
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
قال ابن مسعود - رضِي الله عنه - كما في "تفسير الطبري"[32]: "والأمانة في الصَّلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع".
- فما الذي يجعَلُ الإنسان يتَوضَّأ للصلاة دون رَقيبٍ من البشر؟ إنها الأمانة، ولو دخَل الصلاةَ بلا وُضوء ما علم أحدٌ.
- والأمانة هي التي تجعلُ الإنسان يُصلِّي ويأتي بأركانها وواجباتها دُون إخلالٍ بشيءٍ من شُروطها، ولو دخَل الصلاة ولم يتلفَّظ بالأذكار ما علم أحدٌ.
- والأمانة هي التي تجعَلُ الإنسان يصومُ طاعةً لله، والصوم عبادة سريَّة بين العبد وربِّ البريَّة، ولو أفطر ما علم أحدٌ.
- والأمانة هي التي تجعلُ الإنسان يُخرِجُ زكاة ماله طيِّبة بها نفسُه، ولو أمسَكَها ما عَلِمَ به أحدٌ.
- والأمانة هي التي تجعلُ الإنسان يُراقب الله في خَلواته، ولو فعَل معصيةً في السر لم يعلمْ به أحد.
- والأمانة هي التي تجعَلُ الإنسان يخلصُ في أعماله كلها.
- والأذان كذلك أمانةٌ؛ كما أخبر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الإمام ضامنٌ، والمؤذِّن مُؤتَمَن)).
وقد ذكر أهل العلم أنَّ من شروط المؤذِّن أنْ يكون أمينًا؛ أي: عدلاً، لأنَّه مؤتمن يُرجَعُ إليه في الصلاة وغيرها.
- ومن الأمور المتعلِّقة بأمانة الإمام تجاه المأمومين ألا يخص نفسه بالدُّعَاء، وقد نهى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن ذلك.
فقد أخرج البخاري من حديث ثوبان - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يؤم رَجُلٌ قومًا فيَخُصَّ نفسه بالدعاء دُونهم، فإنْ فعل فقد خانَهم)).
فبالجملة: مَن كان أمينًا في عِبادته فإنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يُبارك له في أعماله وحَياته، ومَن ضيَّعَها كان لما سواها أضيع.
ثم نأتي إلى بيت القصيد وهو مجالات الأمانة.
فمن الأمانة: حفظ الأسرار:
أخرج الترمذيُّ وأبو داود عن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إذا حدَّث الرَّجُلُ الحديثَ ثم التَفَتَ فهي أمانَةٌ))[33].
أخرج الأمام أحمد وأبو داود عن جابرٍ قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنما المجالسُ بالأمانة)).
فالمجالس تُعقَد بالأمانة على ما يَجرِي فيها من أمورٍ، ويجب أنْ تحفظ أسرارها، ولا يحلُّ للمرء أنْ يفشي من أسرار إخوانه ما لا يحبُّون أنْ يخرج عنهم.
قال المباركفوري في شرحه للحديث: حُسْنُ المجالس وشرَفُها بأَمانة حاضِريها على ما يقعُ فيها من قولٍ وفعل؛ فكأنَّ المعنى ليكن صاحب المجلس أمينًا لما يسمعه ويراه"[34].
ويُؤكِّد هذا المعنى العظيم الحسن البصري بقوله: "إنما تُجالسوننا بالأمانة، كأنَّكم تظنُّون أنَّ الخِيانة ليست إلاَّ في الدِّينار والدِّرهم، إنَّ الخيانة أشدَّ الخيانة أنْ يُجالسنا الرجل، فنطمئن إلى جانبه، ثم ينطلق فيسعى بنا.."[35].
قال الكفويُّ: "كلُّ ما افتُرِضَ على العباد فهو أمانةٌ؛ كصلاةٍ وزكاة وصيام وأداء ديْن، وأَوْكدها الودائع، وأوكد الودائع كتمُ الأسرار"[36].
أبو بكر الصديق الحافظ الأمين لِسِرِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
أخرج البخاري عن عبدالله بن عمر - رضِي الله عنهما -: أنَّ عمر بن الخطاب حين تأيَّمت حَفصةُ بنت عمر من خُنَيْس بن حذافة السَّهمي - وكان من أصحاب رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتُوُفِّي بالمدينة - فقال عمر بن الخطاب: أتيتُ عثمَان بن عفَّان، فعرضتُ عليه حفصةَ فقال: سأنظُر في أمري، فلبث ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدَا لي ألا أتزوَّج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكرٍ الصِّدِّيق فقلت: إنْ شئتَ زوَّجتُك حَفصةَ بنت عمر، فصَمَتَ أبو بكر، فلم يَرجِعْ إليَّ شيئًا، وكنتُ أَوْجَدَ[37]عليه منِّي على عثمان فلبثتُ ليالي، ثم خطبها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنكَحتُها إيَّاه، فلقيني أبو بكرٍ فقال: لعلَّك وجدتَ عليَّ حين عَرضتَ عليَّ حفصةَ، فلم أرجعْ إليك شيئًا، قال عمر: قلتُ: نعم، قال أبو بكرٍ: فإنَّه لم يمنَعْني أنْ أرجعَ إليك فيما عرضتَ عليَّ إلا أنِّي كنتُ قد علمتُ أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قد ذكَرَها، فلم أكن لأُفشي سِرَّ رسول الله، ولو تركها رسول الله قبِلْتُها.
حُذيفة بن اليمان - رضِي الله عنه - أكتَم الناس لِسِرَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
كان حذيفة - رضِي الله عنه - أمينًا على سِرِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - على المنافقين، وكان يُقال له: "صاحب السِّرِّ الذي لا يعلمه أحدٌ غيره"[38].
حفْظ أمِّ أبيها فاطمة - عليها السلام ورضي الله عنها - لسِرِّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
كانت - رضِي الله عنها - حافظةًًًًًًًًًًًً لسِرِّ أبيها رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قالت أمُّ المؤمنين عائشة - رضِي الله عنها -: "إنَّا كُنَّا أزواجَ النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنده جميعًا لم تُغادِرْ منَّا واحدةٌ، فأقبلت فاطمة تمشي ما تُخطِئ مِشيتها من مِشية رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلمَّا رَآها رَحَّبَ وقال: ((مرحبًا بابنتي))، ثم أجلسَها عن يمينه - أو عن شماله - ثم سارَّها، فبَكَتْ بُكاءً شديدًا، فلمَّا رأى حُزْنَها سَارَّهَا الثانية، فإذا هي تضحَكُ، فقلت لها: أنا من نسائه - خَصًّك رسول الله بالسِّرِّ من بيننا ثم أنت تبكين، فلمَّا قام رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سألتُها عمَّا سَارَّهَا؟ قالت: ما كُنتُ لأفشي على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - سِرَّه، فلمَّا تُوفِّي قلتُ لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحقِّ لَما أخبرتِني، قالت: أمَّا الآن فنَعَمْ، فأخبرَتْني قالت: أمَّا حين سارَّني في الأمر الأوَّل فإنَّه أخبرني أنَّ جبريل كان يُعارضه بالقُرآن كلَّ سنة مرَّة، وإنَّه قد عارَضَنِي به العام مرتين، ولا أرى الأجَلَ إلاَّ قد اقترب، فاتَّقِي الله واصبري، فإنِّي نعمَ السلفُ أنا لك، قالت: فبكيتُ بُكائي الذي رأيت، فلمَّا رأى جزَعِي سارَّني بالثانية: قال: ((يا فاطمة، ألا ترضين أنْ تكوني سيِّدةَ نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمَّة؟))[39].
حِفظ الغٍلمان لأسرار الكبار:
ولا يتوقَّف الأمرُ على أمانة حِفظ الأسرار عند الرجال والنساء من الصَّحابة، بل حتى الغلمَان، فهذا أنسُ بن مالك - رضِي الله عنه - الغُلام الصَّغير الذي يخدمُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: "أَسَرَّ إلَيَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - سرًّا فمَا أخبرتُ به أحدًا بعدَه، ولقد سألتني أمُّ سُلَيم فمَا أخبرتُها به"[40].
وكلُّ امرئ عُهِدَ إليه بسرٍّ يجب أنْ يحفظه؛ سواء أكان حاكمًا أم طبيبًا أم مُوظَّفًا أم عاملاً، وكمَا قيل: "قلوب العقلاء حُصون الأسْرار"[41].
ومن الأمانة الوفاء بالعقود والعهود:
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ﴾ [المائدة: 1].
والعقود متنوِّعة؛ فهناك عقد البيع، وعقد الإيجار، وعقد الشركة، وغيرها، وكلُّ عَقْدٍ يُبْرِمُه المرء مع غيره هو أمانةٌ يجبُ الوفاءُ بها.
والوفاء بالعهود والوعود من شِيَمِ الأتقياء الأنقياء.
قال تعالى: ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 76].
فيجبُ الوفاء بالعهود حتى ولو مع الكافرين، وهذا ما فعَلَه الرسول الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقد أخرج الإمام مسلمٌ عن حُذَيفة بن اليَمان - رضِي الله عنه - قال: ما منعَنِي أنْ أشهد بدرًا إلا أنِّي خرجتُ أنا وأبو حُسَيل قال: فأخَذَنا كفَّارُ قريش، قالوا: إنَّكم تريدون محمدًا؟ فقلنا: ما نريده، ما نريدُ إلا المدينة، فأخذوا منَّا عهدَ الله ومِيثاقه لَنَنصَرفنَّ إلى المدينة ولا نُقاتِل معه، فأتَيْنا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبرناه الخبر... فقال: انصَرِفا نَفِي لهم بعَهْدِهم ونستعين الله عليهم.
يا له من درسٍ عظيم يُعلِّمنا فيه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الوفاءَ بالعهد حتى مع الأعداء!
قال ميمون بن مهران: "ثلاثةٌ يُؤَدَّيْن إلى البَرِّ والفاجر: الأمانةُ، والعهدُ، وصلة الرَّحم"[42].
ومن الأمانة.. ردُّ الودائع:
ولقد أمَر ربُّ العالمين في كتابه الكريم برَدِّ الوَدائع إلى أهلها؛ فقال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58].
ولقد ضرَب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أروَعَ الأمثلة في رَدِّ الوَدائع إلى أهلها؛ فقد كان الكفار يأتمنونه على أموالهم ويُودعون عنده وَدائعهم؛ فقد كان معروفًا عندهم بالصادق الأمين، فلمَّا أُمِرَ بالهجرة لم يَفُتْهُ أنْ يُوصِيَ عليَّ بن أبي طالبٍ أنْ يَرُدَّ الودائع والأمانات إلى أهلها.
وجاء في "صحيح البخاري": أنَّه ذات يومٍ صلَّى العصر فلمَّا سلَّم قام سريعًا فدخَل على بعض نسائه، ثم خرَج ورأى ما في وُجوه الصحابةِ من تعجُّبهم لسُرعته فقال: ذكرتُ وأنا في الصلاةِ تِبْرًا[43] عندنا، فكرهت أنْ يُمسيَ - أو يبيت - فأمرتُ بقِسْمتِهِ".
ولقد أثنى الله تعالى على رِعاية المؤمنين للأمانة؛ فقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ﴾ [المؤمنون: 8].
وقال ابن مسعودٍ - رضِي الله عنه - كما عند الطَّبري[44]: الأمانة في الصلاة، والأمانة في الصوم، والأمانة في الحديث، وأشدُّ ذلك الودائع.
وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يأمُرنا بأداء الأمانة، حتى لو كان الناس من حولنا غيرَ أُمَناء؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أَدِّ الأمانةَ إلى مَن ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانَك))[45].
فإذا كان ردُّ الأمانات واجبًا، فرَدُّ المغصوب والمسروق أوجب.
يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة كما في "مجموع الفتاوى"[46]: "إذا كان الله تعالى قد أوجب أداءَ الأمانات التي قُبِضَتْ بحقٍّ، فمن باب أَوْلَى وجوب أداء الغَصْبِ والسَّرقة والخِيانة ونحو ذلك من المظالم".
ومن الأمانة.. المحافظة على أموالِ مَن تعمل لديهم:
فقد أخرج الإمام أحمد عن عبدالله بن مسعودٍ - رضِي الله عنه - قال: كنتُ أرعى غنمًا لعُقبة بن أبي مُعَيْطٍ، فمَرَّ بي رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبو بكرٍٍ، فقال: ((يا غُلامُ، هل من لبنٍ؟)) قال: قلت: نعم، ولكنِّي مُؤْتَمَنٌ، قال: ((فهل من شَاةٍ لم يَنْزُ[47]عليها الفحْلُ؟)) فأتيتُه بشاةٍ، فمَسَح ضَرْعَها، فنزَل لبنٌ، فحلَبَهُ في إناءٍ، فشربَ وسقَى أبا بكرٍ، ثم قال للضَّرْع: ((اقْلِصْ)) فقَلَصَ[48]، قال: ثم أتَيْتُه بعد هذا فقلتُ: يا رسول الله، علِّمْني من هذا القول، قال: فمسَح رأسي، وقال: ((يَرحمُكَ اللهُ، فإنَّك غُلَيِّمٌ مُعَلَّمٌ)).
وفي روايةٍ: فأتاه أبو بكرٍ بصَخرةٍ مَنقورةٍ، فاحتلب فيها وشرب، وشرب أبو بكرٍ وشربتُ قال: ثم أتيته بعد ذلك، قلت: عَلِّمني من هذا القُرآن: قال: إنَّك غُلامٌ مُعَلَّم قال: فأخَذتُ من فيه سبعين سورةً.
"فمع أنَّ عبدالله غلامٌ صغير إلاَّ أنَّه بفِطرته النقيَّة قال: إنَّه مُؤتَمَنٌ على الماشية ولبنها، ولم يُفرِّط في الأمانة، رغم شِرك عُقبة وأذاه للمسلمين".
أمانة المبارك:
كان المبارك عبدًا رقيقًا يشتغلُ أجيرًا عند صاحب بستان، وفي ذات يومٍ خرَج صاحبُ البستان مع أصحابٍ له إلى البستان وقال للمُبارك: ائتِنا برمَّان حلو، فقطف المبارك رمانات ثم قدَّمَها إليهم، فإذا هي حامضةٌ، فقال صاحب البستان: أنت ما تعرف الحلو من الحامض؟ قال المبارك: لم تأذَنْ لي أنْ آكُل حتى أعرف الحلو من الحامض، فقال له: أنت من كذا وكذا سنة تحرسُ البستان وتقول هذا! وظَنَّ أنَّه يخدعه، فسأل الجيران، فقالوا: ما أكَل رمانة واحدة.
فقال له صاحب البستان: يا مبارك، أريد أنْ أستشيرَك في أمر هام، إنَّني ليس عندي إلا ابنة واحدة، فلمَن أُزوِّجها؟
فقال له: يا سيِّدي، لقد كان اليهود يُزوِّجون للمال، والنصارى يُزوِّجون للجمال، والعربُ يُزوِّجون للحسَب، والمسلمون يُزوِّجون للتَّقوى، فمن أيِّ الأصناف أنت زوج ابنتك للصِّنف الذي أنت منه.
فقال: والله لا أُزوِّجها إلا على التقوى، وما وجدت إنسانًا أتقى لله منك فقد أعتقتُك وزوَّجتك ابنتي".
سبحان الله! عَفَّ المبارك عن رمَّانةٍ من البستان فسِيق إليه البستانُ وصاحبته، والجزاء من جِنس العمل.
ومَن ترَك شيئَا لله عوَّضَه الله خيرًا منه!
ومن هذا البيتِ خرَج عبدالله بن المبارك الذي ملأ الدنيا عِلمًا ووَرَعًا، وكان يقولُ: لأنْ أردَّ درهمًا من شُبهةٍ خيرٌ لي من أنْ أتصدَّق بمائة ألف دِرهم ومائة ألف درهم، حتى عَدَّ ستمائة ألف درهم، وصدَق الله حيث قال: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ﴾ [الأعراف: 58].
ومن الأمانة توفية الكيل والميزان، والأمانة في البيع والشراء:
قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ﴾ [الأنعام: 152].
قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35].
وذكَر الله تعالى في كتابه الكريم عن أهل مَدْيَنَ أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخَسون الناس أشياءهم؛ أي: يُنقِصُونهم قيمة أشيائهم في المعاملات؛ لذا كانت دعوةُ نبيِّه شعيب - عليه الصلاة والسلام - قومَه إلى توحيد الله - سبحانه وتعالى - ورعاية أمانة المكيال والميزان في المعاملات - ظاهرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ [هود: 84، 85].
وقال شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "بخس المكيال والميزان من الأعمال التي أهلَكَ الله بها قومَ شُعيب - عليه الصلاة والسلام - وقصَّ علينا قصَّتهم في غير موضعٍ من القُرآن؛ لنعتبر بذلك، والإصرارُ على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحِبُه مُستوجِبٌ تغليظَ العُقوبةِ، وينبغي أنْ يُؤخَذ منه ما بخسَه من أموال المسلمين على طُول الزَّمان، ويُصرَف في مَصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه"[49].
وجاء عن ابن عباسٍ - رضِي الله عنهما - قوله: "لَمَّا قَدِمَ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المدينة كانوا مِنْ أخْبثِ الناس كيلاً، فأنزَل الله سبحانه: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ﴾[المطففين: 1]، فأحسَنُوا الكيل بعد ذلك"[50].
ويمكن القول: إنَّ الأمانة في الكيل والميزان من جملة الأمانات التي أمَر الله تعالى بأدائها ومُراعاتها[51]؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 58]، وهي من الأخلاق العظيمة التي تبعَثُ على حِفظ حُقوق الآخَرين، وتُؤكِّد ما بينهم من مُودَّةٍ ومحبَّةٍ، وتُزيل طمَع النُّفوس إلى ما في أيدي الناس دُون جهدٍ، وحبَّذا للمرء أنْ يُرجِّح إذا أعطى، ويُنقص إذا أخَذ؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا وزنتُم فأَرْجِحوا))[52].
والتاجر الأمين في جنَّة ربِّ العالمين مع النبيِّين والصِّدِّيقين:
أخرج الترمذي أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((التاجر الصَّدوق الأمين مع النبيِّين والصِّديقين والشُّهَداء))[53].
وكمَا يعتَنِي الإسلام بالأمانة في توفية الكَيْلِ والميزان يُحذِّر من التَّطفِيف؛ لأنَّ التَّطفِيف فيه دلالةٌ على أنَّ فاعلَه قد تأصَّلت فيه مَساوئ الأخلاق من غِشٍّ وخداع وخِيانة، والتَّطفيف في الكيل والميزان أمرٌ محرَّم وكبيرةٌ من الكبائر؛ قال تعالى: ﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ﴾ [المطففين: 1 - 3]، وهو مُنذِرٌ بعقوبة الجبَّار في الدُّنيا التي تحصل في جلْب الشِّدَّة وغَلاء الأسعار والضِّيق في المعيشة[54].
أخرج البيهقيُّ والحاكم عن ابن عمرَ - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا مَعشَر المهاجرين، خِصالٌ خمسٌ، إذا ابتُلِيتُم بهنَّ - وأعوذ بالله أنْ تدركوهنَّ -: لم تظهر الفاحشة في قومٍ قطُّ حتى يُعلِنوا بها إلاَّ فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مَضَتْ في أسلافهم الذين مضوا.
ولم ينقصوا المكيال والميزان إلاَّ أُخذوا بالسنين، وشدَّة المؤنة، وجور السلطان عليهم.
ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلاَّ مُنِعوا القَطْرَ من السَّماء ولولا البهائمُ لم يُمْطَرُوا.
ولم ينقضوا عهدَ الله وعهدَ رسولِه إلاَّ سلَّط الله عليهم عَدُوًّا من غيرهم، فأخَذوا بعض ما كان في أيديهم.
وما لم تحكم أئمَّتهم بكتاب الله - عزَّ وجلَّ - ويتحرَّوا فيما أنزل الله إلاَّ جعَل الله بأسَهُم بينهم شديدًا"[55].
وعند الطبراني في "الكبير" عن ابن عبَّاس - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((خمسٌ بخمْسٍ، ما نقضَ قومٌ العهدَ إلاَّ سُلِّط عليهم عدوُّهم، وما حكَموا بغير ما أنزَل الله إلاَّ فَشَا فيهمُ الفقرُ، ولا ظهَرت فيهم الفاحشةُ إلاَّ فشا فيهمُ الموتُ، ولا طفَّفوا المكيالَ إلاَّ مُنِعوا النَّبات وأُخذوا بالسنين، ولا منَعوا الزكاة إلاَّ حُبِسَ عنهُم القَطْرُ))[56].
وبأمانة التُّجَّار المسلمين وصِدقهم دخَل الناس في دِين الله أفواجًا:
إنَّ أثَر التُّجَّار الأمناء الصادقين في انتشار الإسلام لا يقلُّ عن أثَر الجيوش في الفتوحات الإسلاميَّة، بل إنَّه فاقَ أثَر هذه الجيوش، ووصَل إلى مناطق لم تدخُلها جيوش المسلمين، وإنما دخَلها التُّجَّار المسلمون بأمانتهم؛ كمناطق جنوب شرق آسيا، وغرب إفريقيا ووسطها.
ولِمَكارم الأخلاق وعلى رأسها الأمانةُ أسرَعَ كرامُ الناس إلى اعتناق الإسلام لدَعوته إليها.
وما أسلم صفوةُ الصحابة على يد أبي بكرٍ الصِّدِّيق إلاَّ لِمَا عَهِدوه فيه من خُلُقٍ وأمانة؛ فأسلَمَ على يديه عثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيدالله - رضِي الله عنهم - وذلك لِمُخالطتهم الصِّدِّيقَ التاجرَ الأمين، وما لمسوه من أخلاقه الكريمة.
ومن الأمانة قضاءُ الدَّيْن:
ممَّا لا شَكَّ فيه أنَّ مسألة الدَّيْنِ من المسائل الخطيرة التي يتَهاوَنُ فيها كثيرٌ من المسلمين، ويدلُّ على خطَرِها ما أخرَجَه الإمام أحمد والترمذي أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((نَفْس المؤمن مُعَلَّقةٌ بِدَيْنِه حتى يُقضَى عنه)).
وأخرج الإمام مسلمٌ عن عبدالله بن عمرٍو - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يُغفَر للشهيد كُلُّ ذنبٍ إلاَّ الدَّيْن)).
وأخرج الإمام مالكٌ عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - قال: "إيَّاكُم والدَّيْن؛ فإنَّ أوَّله هَمٌّ، وآخره حرب".
ولذلك أمَرَنا ربُّ العالمين في كتابه الكريم بأداء الدَّيْنِ وأكَّد على ذلك؛ فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ ﴾ [البقرة: 283].
والمولى - عزَّ وجلَّ - أطلق اسمَ الأمانة على الدَّيْنِ الذي في الذِّمَّة، وفي ذلك تعظيمٌ لأمانة الدَّين وحَثٌّ على تأدِيَتِه"[57].
وعلى هذا ينبغي للمَدِين أنْ يُبادِرَ إلى إبْراء ذمَّته، والوَفاء بالدَّيْن في مَوعِدِه ما دام قادرًا على السَّداد، والمماطلةُ هنا: من الخِيانة والظُّلم.
فقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَطلُ الغَنِيِّ ظلمٌ)).
مثال رائع في قَضاء الدَّيْن:
روى البخاري عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ رجلاً من بني إسرائيل سأل بعضَ بني إسرائيلَ أنْ يُسلفهُ ألف دينارٍ، فقال له الرجل - أي: الدائن الذي سيمنَحُه المَال -: ائتني بشُهَداء أُشهدهم، قال: كفَى بالله شهيدًا، قال: ائتني بكفيلٍ، قال: كفَى بالله كفيلاً، قال: صدقتَ، فدفعها إليه إلى أجلٍ مُسمًّى، فخرَج في البحر فقضى حاجتَهُ، ثمَّ التمَس مَركَبًا يقدمُ عليه للأجل الذي كان أجَّلَه فلم يجدْ مركبًا، فأخَذ خشبةً فنقرها وأدخَل فيها ألفَ دِينارٍ وصَحيفةً معها إلى صاحبها، ثم زجَّجَ مَوضِعَها، ثمَّ أتى بها البحر ثمَّ قال: اللهم إنَّك قد علمتَ أنِّي استلفْتُ من فلانٍ ألفَ دينارٍ فسألني كفيلاً فقلتُ: كفى بالله كفيلاً فرضِيَ بكَ، وسألني شهيدًا فقلتُ: كفَى بالله شهيدًا فرضَِي بك، وإنِّي قد جَهِدتُ أنْ أجدَ مركبًا أبعثُ إليه بالذي له فلم أجد مركبًا، وإنِّي استودَعتُكَها، فرَمَى بها في البحر حتى ولَجتْ فيه ثُمَّ انصَرف ينظُر وهو في ذلك يطلُب مركبًا يخرُج إلى بلدِه، فخرَج الرَّجُل الذي كان أسْلَفَهُ ينظُر لعلَّ مركبًا يجيءُ بمالِه، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخَذَها لأهْله حَطَبًا، فلَمَّا كسَرَها وجد المال والصَّحيفة، ثم قدم الرَّجُل الذي كان تَسلَّفَ منه فأتاه بألفِ دِينارٍ وقال: والله ما زلتُ جاهدًا في طلب مركبٍ لآتيكَ بمالك فمَا وجدتُ مركبًا قبلَ الذي أتيتُ فيه، قال: هل كنت بعثتَ إليَّ بشيءٍٍ؟ قال: ألم أُخبِركَ أنِّي لم أجدْ مركبًا قبلَ هذا الذي جِئتُ فيه؟ قال: فإنَّ الله قد أدَّى عنك الذي بعثتَ به في الخشَبة، فانصرفْ بألْفِكَ راشِدًا".
وصدَق الحبيب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال كما في "صحيح البخاري": ((مَن أخَذ أموال الناس يُريدُ أَداءَها أَدَّى الله عنه، ومَن أخَذَها يريدُ إتلافها أتْلَفَه الله)).
ومَن وفَّى في القضاء وأحسَنَ فهو من خِيار الناس:
فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ خِيارَكم أحسَنُكم قضاء)).
ومَن وفَّى في القضاء وأحسن فرَّج الله كُربتَه:
في حديث الثلاثة أصحابِ الغار وكيف نجَّاهم الله: "... وقال الثالث: اللهمَّ اسْتَأْجَرْتُ أُجَراءَ وأعطَيتُهم أجرَهم غيرَ رَجُلٍ واحد، تركَ الذي له وذهب، فثمَّرتُ أجرَه، حتى كثرتْ منه الأموال، فجاءني بعد حينٍ، فقال: يا عبد الله، أَدِّ إليَّ أجري، فقلتُ: كُلُّ ما تَرى مَن أجرك: من الإبل، والبقر، والغنم، والرقيق، فقال: يا عبد الله، لا تستَهزِئ بي، فقلت: لا أستهزئ بك، فأخَذَه كُلَّهُ فاستاقَهُ، فلم يترُك منه شيئًا، اللهم إنْ كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك، فافرج عنَّا ما نحنُ فيه، فانفرجت الصخرةُ؛ فخرجوا يمشُون"، والحديث عند البخاري.
ومن الأمانة ألا يبخس الأجير حقَّه:
ينبغي مُراعاةُ الأمانة في استِئجار الأُجَراء، والمبادرةُ في إعطائهم حُقوقَهم وأجورَهم؛ لقول رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أعْطُوا الأجيرَ أجرَه قَبْلَ أنْ يجفَّ عَرَقُه))[58].
وضرَب لنا النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - مِثالاً في أمانة حِفظ الأجر لصاحِبه وأدائه إليه ولو بعدَ حِين؛ ففي "صحيح البخاري" في قصة الثلاثة الذين دخَلوا في جبلٍ فانحطَّت عليهم صَخرةٌ، فقال بعضُهم لبعضٍ: ادعُوا الله تعالى بأفضل أعمالكم، فقال أحدهم: "اللهمَّ إنْ كنتَ تعلمُ أنِّي استَأجرتُ أجيرًا بفرقٍ[59]من ذرةٍ فأعطيته، وأبَى ذلك أنْ يأخُذ، فعمدتُ إلى ذلك الفرق، فزرَعتُه، حتَّى اشتريت منه بقرًا وراعيها، ثم جاء، فقال: يا عبد الله، أعْطني حقَّي، فقلت: انطلق إلى تلك البقر وراعيها فإنها لك، فقال: أتستهزئُ بي؟ قال: فقلت: ما أستهزئُ بك، ولكنَّها لك، اللهمَّ إنْ كنت تعلمُ أنِّي فعلت ذلك ابتغاءَ وجهكَ، فافرُج عنَّا، فكشفَ عنهم".
فهنا برزت عظمةُ أمانة الرجل في حِفظ أجر الأجير، ولَمَّا جاء يطلُب أجرته وفَّاه إيَّاها وتبرَّع بذلك النَّماء"[60].
ومن الأمانة ردُّ اللقطة والأموال الضائعة إلى أصحابها:
أمانة ثابت بن إبراهيم:
يمرُّ ثابتٌ على بستانٍ من البساتين، وكان قد جاع حتى أعياه الجوع، فوجد تفاحةً ساقطة منه، فأكل منها النصف، ثم تذكَّر أنها لا تحلُّ له؛ إذ ليست من حقِّه، فدخل البستان فوجد رجلاً جالسًا فقال له: أكلتُ نصف تفاحةٍ فسامحني فيما أكلتُ وخُذِ النصف الآخَر، فقال الرجل: أمَا إنِّي لا أملك العفو ولكن اذهب إلى سيدي فالبستان ملكٌ له، قال: أين هو؟ قال: بينك وبينه مسيرة يوم وليلة، قال: لأذهبنَّ إليه مهما كان الطريق بعيدًا؛ فالنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّ لحمٍ نبت من سُحْتٍ فالنار أَوْلَى به))، حتى وصَل إلى صاحب البستان، فلمَّا دخَل عليه وقصَّ عليه القصص قال صاحب البستان: والله لا أسامحك إلا بشرطٍ واحد.
فقال ثابت: خُذْ لنفسك ما رضيت من الشروط.
فقال: تتزوَّج ابنتي، ولكن هي صماء عمياء بكماء مُقعدة.
فقال ثابت: قبلت خطبتها، وسأُتاجر فيها مع ربي ثم أقوم بخِدمتها، وتَمَّ عقد الزواج فدخل ثابت لا يعلم هل يلقي السلام عليها أو يسكت، ولكنَّه آثر إلقاء السلام لتردَّ عليه الملائكة، فلمَّا ألقى السلام وجدها تردُّ السلام عليه، بل وقفت وسلمت عليه بيدها فعلم أنها ليست كما قال الأب، فسألها فقالت: إنَّ أبي أخبرك بأنِّي عمياء فأنا عمياء عن الحرام فلا تنظر عيني إلى ما حرَّم الله، صمَّاء من كلِّ ما لا يرضي الله، بكماء لأنَّ لساني لا يتحرَّك إلا بذِكر الله، مقعدة لأنَّ قدمي لم تحملني إلى ما يغضب الله، ونظر ثابت إلى وجهها فكأنَّه القمر ليلة التمام، ودخل بها وأنجب منها مولودًا ملأ طباق الأرض علمًا"، إنه الفقيه أبو حنيفة النُّعمان، فمن نسل الورع والأمانة جاء الفقيه".
أمانة ابن عقيل الحنبلي - رحمه الله -:
قال أبو المظفَّر سِبط ابن الجوزي: "حكى ابن عقيل عن نفسه قال: حججت، فالتقطت عقْدَ لؤلؤٍ في خَيْطٍ أحمرَ، فإذا شيخ أعمى ينشده، ويبذل لملتقطه مائة دينار، فرددته عليه، فقال خُذِ الدنانير، فامتنعتُ، وخرجت إلى الشام، وزُرْتُ القدسَ، وقصدت بغداد، فأويت بحلب إلى مسجد وأنا بردان جائع، فقدَّموني، فصلَّيْتُ بهم، فأطعَموني، وكان أوَّل رمضان، فقالوا: إمامُنا تُوفِّي فصَلِّ بنا هذا الشهر، ففعلتُ، فقالوا: لإمامنا بنتٌ، فزُوِّجتُ بها، فأقمتُ معها سنةً، وأولدتها ولدًا ذكرًا، فمرِضَتْ في نِفاسها، فتأمَّلتُها يومًا فإذا في عُنُقِها العقدُ بعينه بخيطِه الأحمر، فقلتُ لها: لهذا قصة، وحكيت لها، فبكَتْ، وقالت: أنت هو، والله لقد كان أبي يبكي، ويقول: اللهمَّ أرزق بنتي مثل الذي ردَّ العقْدَ عليَّ، وقد استَجاب الله منه، ثم ماتت، فأخذت العِقد والميراث، وعُدْت إلى بغداد"[61].
من الأمانة رعاية كلٍّ من الزوجين لحقِّ الآخَر:
والزوجان مُؤتَمنان على رِعاية مِيثاق الزواج الذي وصَفَه الله بالميثاق الغليظ؛ قال تعالى: ﴿ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ﴾ [النساء: 21]، فعقد الزواج أمانةٌ عظيمة، لا يجوز خِيانته والتفريط فيه.
وهذا ما يُؤكِّد عليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ففي الحديث الذي أخرجه البخاريُّ ومسلم من حديث ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته؛ الإمام راعٍٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّده ومسؤولٌ عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيَّته)).
أولاً: أمانة الزوج تجاه حقوق زوجته:
فعلى الزوج أنْ يعرف أنَّ زوجته عنده أمانة، فليتَّقِ الله فيها:
فقد أخرج الأمام مسلمٌ عن جابر بن عبدالله - رضِي الله عنهما - أنَّ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - خَطَب في حَجَّة الوداع، فكان ممَّا قال: ((اتَّقوا الله في النساء؛ فإنَّكم أخذتموهُنَّ بأَمَان الله، واستحللتم فُرُوجَهُنَّ بكلمة الله، وإنَّ لكم عليهنَّ ألا يُوطِئْنَ فُرُشكُم أحدًا تَكْرهُونَه...)).
فعلى الزوج أنْ يُطعمها إذا طَعِم، ويكسوها في البيت إذا اكتسى، ولا يضرب الوجه، ولا يُقبِّح (لا يسمعها ما تكره؛ كقَّبح الله وجهك ونحوه)، ولا يهجر إلا في الفِراش، وأنْ ينفق على زوجته ولا يطعمها إلا من الحلال، ويحسن عِشرتها، وأنْ يعلمها، وأنْ يمنعها من التبرُّج والسفور ويأمرها بالحجاب، ويغار عليها، وعدم التماس عثرات الزوجة، والتجسُّس عليها وتخْوينها، وهو أمر منهيٌّ عنه؛ روى جابر - رضِي الله عنه -: "نَهَى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يطرقَ الرَّجُلُ أهله ليلاً يَتَخوَّنُهُم أو يلْتَمِسُ عَثَرَاتِهم"؛ مسلم.
ومن أعظم الأمانة تُجاه الزوجة حفظُ سرِّها وخُصوصًا أسرارَ الفِراش؛ فقد أخرج الإمام مسلمٌ في صحيحِه عن النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنَّ من أعظم الأمانة[62] عند الله يوم القيامة الرجل يُفضِي إلى امرأته وتُفضِي إليه ثم ينشر سِرَّها)).
وفي رواية: ((إن أشرِّ الناس عند الله منزلة يوم القيامة، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشُر سِرَّها)).
ثانيًا: أمانة الزوجة تجاه حُقوق زوجها:
1-طاعتها لزوجِها: الزوجة مُؤتَمَنة ومُلزَمة بطاعة الزوج الذي له حَقُّ القوامة عليها ما دام لم يأمرها بمعصية، والمرأة الصالحة الأمينة هي التي تحفَظُ معروفَ زوجها وتطيعُه في المعروف؛ قال تعالى: ﴿ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ﴾ [النساء: 34].
- وقال ابن عباس - رضِي الله عنهما - وغير واحدٍ في قوله - تعالى -: ﴿ قَانِتَاتٌ ﴾: "يعني: مطيعات لأزواجهنَّ"[63].
2- حِفظ نفسها وعِرضها، فالزوجة مُؤتَمَنةٌ على حِفظ نفسها وعِرضها؛ فقد أخرج ابن حبَّان عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "إذا صلَّت المرأةُ خَمسَها، وصَامَتَ شَهرَها، وحَصَّنَت فَرجَها، وأطَاعَت بَعلَها، دَخَلَت الجَنَّة من أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شَاءَت"[64].
- وجاء عن أُبَيِّ بن كعبٍ - رضِي الله عنه - قوله: "من الأمانة أنَّ المرأة اؤتمنت على فَرْجِها"[65].
3- حِفظ مال الزوج وعدَم الإسراف في إنفاقه: الزوجة مُؤتَمَنة على حِفظ مال زوجها وعدَم الإسراف في المأكل والمشرب؛ قال تعالى: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31].
وقوله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ [الفرقان: 67].
وغاية هذه الأمانة أنَّ المرأة لا تتَصرَّف في مال زوجها إلاَّ بإذْنه إلاَّ في الصَّدقة المعتدلة؛ كما في حديث عائشة - رضِي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إذا تَصَدَّقَت المرأةُ من طعام زوجها، غَير مُفْسِدةٍ، كان لها أجرُها، ولزوجها بما كَسَب، وللخازنِ مثل ذلك))؛ البخاري.
ويُعفى من ذلك عن الشيء اليسير الذي لا يُؤبَه له، ولا يظهر فيه النُّقصان، أو إذا كان الزوج يأذَنُ لها إجمالاً[66].
وكذلك من أمانة الزوجة إعلامُ زوجها بما كتَب الله تعالى لها من الحمل في بَطنها؛ لتتأكَّد رعايتُه على المولود له، خاصَّة عندما تضيقُ سُبُلُ المعاشرة بالمعروف بينهمَا؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 228].
4-حِفظ أسرار الزوج: الزوجة مُؤتَمَنة على حِفْظِ أسرار زوجها، ويجبُ عليها أنْ تحرصَ أشدَّ الحِرص علي عدَم إفشائها، ولا شَكَّ أنَّ حِفْظَ سِرِّ الزوج من أخصِّ خَصائص أمانة الزوجة تجاه زوجها، ومن أكثرها إسهامًا في ديمومة الحياة الزوجيَّة واستِقرارها.
ومن أعظم الأسرار ما يكونُ من أمور الاستمتاع.
فقد أخرج الأمامُ أحمد عن أسماء بنت يزيد: أنها كانت عند رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - والرجال والنساء قُعودٌ فقال: ((لعلَّ رجلاً يقولُ ما يفعل بأهله، ولعلَّ امرأة تخبرُ بما فعلت مع زوجها))، فأَرَمَّ القوم، فقُلت: والله يا رسول الله إنهنَّ ليفعلن وإنهم ليفعلون قال: فلا تفعَلُوا؛ فإنما ذلك مثلُ الشيطان لقي شيطانةً في طريقٍ فغشيها والناس ينظُرون.
ومن الأمانة: حِفظ الأولاد وحُسن تربيتهم.
وهذه النِّعمة التي أعطاك الله إيَّاها ستُسأَل عنها يوم القيامة، هل حَفِظت أو ضيَّعت؟ فللأولاد وتربيتهم مسؤوليَّةٌ سيُسأَلُ عنها الآباء أمامَ الله - عزَّ وجلَّ - يوم القيامة؛ فلن تزولَ قدَمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عمَّا استَرْعاه، أحفظ أم ضيَّع؟
فقد أخرج البخاري ومسلمٌ عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته، فالرجل راعٍ في بيته وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها ومسؤولةٌ عن رعيَّتها)).
قال الأمام النووي - رحمه الله -: الراعي هو الحافظ المؤتمَن الملتزِم صلاحَ ما قام عليه وما هو تحت نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحت نظَرِه شيءٌ فهو مُطالَبٌ بالعدل فيه والقيام بِمَصالحه في دِينه ودُنياه ومُتعلَّقاته، ا.هـ.
وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته))؛ أي: في الآخِرة، فإنْ وفَّى ما عليه تجاه الولد من الناحية الصحيَّة والجسديَّة وتوفير القوت والملبس والمسكن؛ حيث إنَّ الطفل لا يستطيع أنْ يُوفِّر ذلك لنفسه، وكذلك يُوفي ما عليه من ناحية التربية، فيُربِّيه على المبادئ الإيمانيَّة السامية؛ حيث إنَّ الطفل يُولد وعقله وقلبه صفحة بيضاء يستوعبُ ما يُنقَش فيه، ويتعلَّم ما يُملَى عليه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا ﴾ [النحل: 78].
فإنْ رُبِّي الولدُ على الخير نشَأ عليه وأصبح بارًّا بوالديه يدعو لهما ويقول: ﴿ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 24].
فشَكَرَ الولد حُسن صَنيع الوالدين؛ حيث بذَلا المجهود الكبير في تربيته حتى استَقام على دِينه واستَغنى بنَفْسه عن غيرِه.
وأمَّا إذا ضيَّعا وفرَّطا في تربية الولد، فإنَّه سيخرُج عُضوًا فاسدًا ومِعوَل هدمٍ وعاقًّا لوالديه.
فالولَدُ كما أنَّه مسؤوليَّة فإنَّه أمانةٌ عند والدَيْه، وسيُسألان عنه يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
وإنْ كانت الأمانة هي التَّكاليف الشرعيَّة إلا أنها بمفهومها أعمُّ وأشملُ من ذلك؛ فالإحسان إلى الأولاد وتربيتهم تربيةً إسلاميةً صحيحةً أداءٌ للأمانة، وإهمالهم والتقصير في حُقوقهم غِشٌّ وخِيانةٌ؛ لأنهم لم يعمَلُوا بوصيَّة الله لهم.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ﴾ [التحريم: 6].
قال الشافعي في هذه الآية: على الآباء والأمَّهات تعليم أولادهم الصِّغار ما يتعيَّن عليهم عند البُلوغ؛ فيُعلِّمه الوليُّ الطَّهارة والصَّلاة والصوم ونحوه، ويُعرِّفه تحريم الزنا واللواط.
وقال الحسن البصري: أي: مُرُوهم بطاعة الله وعَلِّموهم الخير.
وقد نقَل ابنُ كثيرٍ في تفسير هذه الآية قولَ الإمام عليٍّ - رضِي الله عنه - حيث قال: "عَلِّموهم وأدِّبوهم".
وكذلك نقَل هذا الكلام الإمام النووي عن مجاهد وقتادة.
إذًا فالزوجان مُؤتمَنان على تربية أولادِهما وتعليمهم ما ينفَعهم في دِينهم ودُنياهم.
يقول ابن القيِّم - رحمه الله - كما في "تحفه المودود" صـ139: فمَن أهمل تعليمَ ولدِه ما ينفعُه، وترَكَه سُدًى، فقد أساء إليه غايةَ الإساءة، وأكثَرُ الأولاد إنما جاء فَسادُهم من قِبَلِ الآباء وإهمالهم لهم، وترْك تعليمهم فرائض الدِّين وسننه، فأضاعوها صِغارًا، فلم ينتَفِعوا بأنفُسهم ولم ينفَعُوا آباءَهُم كبارًا، ا.هـ.
ولله در القائل:
لَيْسَ اليَتِيمُ مَنِ انْتَهَى أَبَوَاهُ مِنْ *** هَمِّ الحَيَاةِ وَخَلَّفَاهُ ذَلِيلا
إِنَّ اليَتِيمَ هُوَ الَّذِي تَلْقَى لَهُ *** أُمًّا تَخَلَّتْ أَوْ أَبًا مَشْغُولا

فمن الأمانة حُسن تربية الأولاد.
ولهذا وصَّانا الله تعالى وأمَرَنا بِحُسن التربية ورعاية الذريَّة؛ فقال تعالى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11].
وقد ذكَر ابن القيِّم - رحمه الله - أدلَّةً كثيرةً على وُجوب التربية منها:
1-ما أخرجه الإمامُ أحمد وأبو داود أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مُرُوا أبناءَكم بالصَّلاة لسبعٍ، واضرِبُوهم عليها لعَشْرٍ، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))[67].
2- وفي "مُسند الأمام أحمد" بسندٍ فيه مَقال: ((ما نحل والدٌ ولدًا أفضل من أدبٍ حَسَنٍ)).
3- وفي "المسند" أيضًا وعند ابن حبان كذلك: لأنْ يُؤدِّبَ أحدُكم ولدَه خيرٌ له من أنْ يتصدَّقَ كلَّ يومٍ بنصف صاعٍ على المساكين)).
4-وفي "شعب الأيمان"؛ للبيهقي عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: "أدِّب ابنك فإنَّك مسؤول عنه ماذا أدَّبته؟ وماذا علَّمته؟ وهو مسؤول عن برِّك وطواعيته لك".
فأمرُ التربية خطير، فمَن رُبِّي على طاعة الله عُصِمَ ووُقِيَ النارَ، ومَن قصَّر وأهمل في أمر التربية لم يَقِ نفسه ولا أهلَه هأهمل النار، وكان عرضةً لغضَب الجبَّار.
قال الغزالي - رحمه الله -: اعلَمْ أنَّ الطريق في رياضة الصِّبيان من أهمِّ الأمور وأوكدها، والصبيُّ أمانةٌ عند والديه، وقلبُه الطاهر جوهرةٌ نفيسة ساذجة خالية من كلِّ نقشٍ وصُورة، وهو قابلٌ لكُلِّ شيءٍ، ومائلٌ إلى كلِّ ما يُمالُ به إليه، فإنْ عُوِّدَ الخيرَ وعُلِّمَه ونُشِّئَ عليه - سَعِدَ في الدُّنيا والآخِرة، وشارَكَه في ثَوابه أَبواه وكلُّ مُعلِّمٍ له ومُؤدِّب، وإنْ عُوِّدَ الشرَّ وأُهمِل إهمالَ البهائم شقي وهلك، وكان الوزرُ في رقبة القيِّم عليه والولي له، ا.هـ.
والنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يُقرِّر هذه الحقيقةَ؛ فقد أخرَجَ البخاري ومسلمٌ من حديث أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من مولودٍ إلا يُولَد على الفِطرة، فأبَواهُ يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه، كما تُنْتَجُ البَهيمةُ بهيمَةً جمعاء، هل تحسُّون فيها من جَدْعاءَ؟)).
ثم قال أبو هُرَيرة - رضِي الله عنه -: واقرؤوا إنْ شئتم: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾ [الروم: 30].
- ((كما تُنتَجُ البهيمة بهيمةً))؛ معناه: أنَّ البهيمة تَلِدُ بهيمةً كاملة الأعضاء لا نقصَ فيها، وإنما يحدُث فيها الجدْع والنَّقص بعد ولادتها، ا.هـ (النووي).
- جمعاء: مجتمعة الأعضاء، سليمة من نقصٍ، لا تُوجد فيها جدعاء؛ وهي مقطوعة الأذُن أو غيرها من الأعضاء.
وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - في شرح هذا الحديث[68]: قال القرطبي في "المفهم": المعنى: أنَّ الله خلَقَ قُلوبَ بني آدم مُؤهَّلة لقبول الحقِّ كما خلَق أعيُنَهم وأسماعهم قابلةً للمَرئيَّات والمسموعات، فما دامت باقيةً على ذلك القبول على تلك الأهليَّة أدركت الحقَّ، ودِينُ الإسلام هو الدِّين الحقُّ، وقد دلَّ على هذا المعنى بقيَّةُ الحديث؛ حيث قال: ((كما تُنتَج البهيمة))؛ يعني: أنَّ البهيمة تلدُ الولد كاملَ الخلقة، فلو تُرِكَ كذلك كان بريئًا من العيب، لكنَّهم تصرَّفوا فيه بقطْع أذُنِه مثلاً، فخرَج عن الأصل، وهو تشبيهٌ واقعٌ، ووَجهه واضح، والله أعلم، ا.هـ.
ونرى في هذا الحديث أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبر أنَّ الطفل حين يُولَدُ يُولَدُ على الفِطرة السليمة القابلة للخير، إنما تنحرفُ هذه الفِطرة، وتتغيَّر بسُوء التربية والقُدوة السيِّئة.
كما قال القائل:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ مِنَّا  *** عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوه

فالواجب على الآباء أنْ يُحِيطوا الأبناء بالحِفظ والرِّعاية وحُسن التربية، خاصَّة وأنَّ الشيطان توعَّد الإنسان فقال له ربُّ العزَّة: ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا ﴾ [الإسراء: 64]، فيُحاول الشيطان أنْ يُشارك في تربية الأولاد ويجعَل الآباء ينحَرِفون بأبنائهم عن الطريق القَوِيم والصراط المستقيم، هذا من جانب، ومن جانبٍ آخَر فإنَّه يُشارك في تربية الأولادِ كلٌّ من: وسائل الإعلام بأشكالها المختلفة من تلفاز أو دش أو فيديو أو كمبيوتر أو مجلات، والبرامج التي ربما لا تخلو من خيالات وخُرافات وخُزَعبِلات، وحياة الأساطير والتي تؤثِّر على شخصيَّة الطفل.
أَضِفْ إلى ذلك دور المدرسة والمناهج التعليميَّة، وكذلك أصدقاء المدرسة وأبناء الجيران... وغير ذلك من الوسائل التي تؤثِّر في تربية الولد بشكلٍ أو بآخَر، ومن هنا يأتي دور الآباء وأهميَّة التربية الصحيحة، وذلك عن طريق تجنيب الأولاد وسائل الفساد بأشكالها المختلفة، وأنْ يدفَعوا بأبنائهم إلى المربِّين الصالحين، كما كان يفعَلُ السَّلف الصالح؛ حيث كانوا قديمًا ينتَقُون لأولادهم أفضلَ المربِّين عِلمًا وأحسنهم خُلُقًا وأميزهم أسلوبًا وطريقةً؛ وذلك ليتعلَّم الولد منه.
وهذه باقةٌ من أخبارهم:
روى الجاحظ أنَّ عُقبة بن أبي سفيان لما دفَع ولده إلى المؤدِّب قال له: ليكن أوَّل ما تبدأُ به من إصلاح نفسك؛ فإنَّ أعينهم معقودةٌ بعَيْنِك، فالحسَنُ عندهم ما استَحسَنتَ، والقبيحُ عندهم ما استَقبَحتَ، وعلِّمهم سِيَرَ الحكماء، وأخلاقَ الأدباء، وتهدَّدْهم بي، وأدِّبهم دُوني، وكُنْ لهم كالطبيب الذي لا يعجل بالدواء حتى يعرف الداء، ولا تتَّكِلَنَّ على عُذرٍ منِّي، فقد اتَّكلت على كفايةٍ منك.
وروى ابنُ خلدون في مقدمته: أنَّ هارون الرشيد لما دفَع ولدَه الأمين إلى المؤدِّب قال له: يا أحمد، إنَّ أمير المؤمنين قد دفَع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصيِّر يدك عليه مبسوطة، وطاعتك له واجبةً، فكن له بحيث وضَعَك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرِّفه الأخبار، وروِّه الأشعار، وعلمه السنن، وبصِّره بمواقع الكلام وبدئه، وامنَعْه من الضحك إلا في أوقاته، ولا تَمُرَّنَّ بك ساعة إلا وأنت مغتنمٌ فائدة تفيده إيَّاها من غير أنْ تحزنه فتميت ذِهنَه، ولا تُمعِن في مسامحته، فيستحلي الفَراغ ويألفه، وقَوِّمْه ما استطعت بالقُرب والملاينة، فإنْ أباها فعليك بالشِّدَّة والغِلظة.
وقال عبدالملك بن مروان - ينصح مُؤدِّبَ ولدِه -: علِّمهم الصِّدق كما تُعلِّمهم القرآن، واحمِلْهم على الأخلاق الجميلة، ورَوِّهم الشعرَ يشجعوا وينجدوا، وجالِسْ بهم أشرافَ الرجال وأهل العِلم منهم، وجنِّبهم السفلة والخدم؛ فإنهم أسوأ الناس أدبًا، ووقِّرهم في العلانية، وأنِّبهم في السر، واضربهم على الكذب، فإنَّ الكذب يدعو إلى الفُجور، وإنَّ الفجور يدعو إلى النار.
وقال الحجاج لمؤدِّب بنيه: علِّمهم السِّباحة قبل الكتابة، فإنهم يجدون مَن يكتبُ عنهم، ولا يجدون مَن يسبح عنهم.
وكتب عمر ابن الخطاب - رضِي الله عنه - لأهل الشام يقول لهم: "علِّموا أولادكم السباحةَ والرَّمي والفروسيَّة".
وقال أحد الحكماء لِمُعلِّم ولده: لا تُخرِجْهم من علمٍ إلى علمٍ حتى يُحكِمُوه؛ فإنَّ اصطِكاكَ العلم في السمع، وازدحامَه في الوهم مضلَّةٌ للفهم.
ومن وصيَّة ابن سيناء في تربية الولد: أنْ يكون مع الصبي في مكتبه صِبيةٌ حسَنة آدابهم، مرضيَّة عاداتهم؛ لأنَّ الصبيَّ عن الصبي ألقن، وهو عنه آخَذُ، وبه آنَسُ.
قال هشام بن عبدالملك لسليمان الكلبي مُؤدِّب ولدِه: إنَّ ابني هذا هو جلدةُ ما بين عيني، وقد ولَّيتك تأديبَه، فعليك بتقوى الله وأَدِّ الأمانة، وأوَّل ما أُوصِيك به أنْ تأخُذَه بكتاب الله، ثم روِّه من الشعر أحسَنَه، ثم تخلَّلْ به في أحياء العرب، فخُذْ من صالِح شِعرهم وبصِّره طُرَفًا من الحلال والحرام، والخطب والمغازي[69].
- وهكذا كان السَّلف الصالح يحرِصُون على تربية أولادهم تربيةً إسلامية مُتكاملة خلقيًّا وفِكريًّا وجسمانيًّا، ويغرسون فيهم مَعانِيَ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر والقدَرِ خيره وشرِّه، ويُعوِّدونهم حبَّ الله ورسوله، ومُراقبةَ الله في السِّرِّ والعلَن، ويُعلِّمونهم أحكامَ الحلال والحرام، ويُجنِّبونهم الكذبَ والسَّرقة والسباب والشَّتائم والخلطة الفاسدة والميوعة والانحِلال والقُدوة السيِّئة، ويستَحِثُّونهم على الرياضات البدنيَّة النافعة كما مَرَّ بنا قولُ عمر - رضِي الله عنه - لأهل الشام.
ومن الأمانة.. قيام الأمراء والسلاطين والرُؤساء على مَصالح العباد والبلاد، والمحافظة على ثَروات شُعوبهم وبلادهم:
أخرج البخاري ومسلمٌ عن ابن عمر - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّته؛ فالإمام راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيته، والرجُل راع في أهله، وهُو مسؤولٌ عن رعيَّته، والمرأة راعيةٌ في بيت زوجها وهي مسؤولةٌ عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيِّدِه، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ في مال أبيه وهو مسؤولٌ عن رعيَّته؛ فكلُّكم راعٍ، وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته)).
ولفظ مسلم: ((ألا كُلُّكُم رَاعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّته؛ فالأميرُ الذي على الناس راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رعيَّته، والرجل راعٍ على أهل بَيِته وهو مسؤول عنهم، والمرأة راعية على بيت بَعلها وولَدِه، وهي مسؤولةٌ عنهم، والعبد راعٍ على مال سيِّده، وهو مسؤولٌ عنه، ألا فكُلُّكُم رَاعٍ، وكُلُّكُم مسؤولٌ عن رعيَّتِه)).
والرعاية بمعنى الحِفظ والأمانة، فكلُّ هؤلاء المذكورين في الحديث رُعاةً وحُكَّامًا على اختِلافِ مَراتِبهم، مُؤتَمنون بأماناتٍ يجبُ الوفاء بها.
قال النووي في شرحه للحديث: "الراعي هو الحافظ المُؤتمَن الملتزِم صلاحَ ما قام عليه، وما هو تحت نظَرِه، ففيه أنَّ كلَّ مَن كان تحت نظَرِه شيءٌ فهو مُطالَبٌ بالعدل فيه والقِيام بِمَصالحه في دِينه ودُنياه ومُتعلَّقاته"[70].
فمَن وَلِي أمرَ المسلمين فهو أمينٌ عليهم ومسؤولٌ عنهم، ومَن فرَّط وضيَّع في هذه الأمانة فإنَّه يأتي يوم القيامة مُكبَّلاً؛ فقد أخرَجَ البيهقي بسندٍ صحيحٍ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما من أميرِ عشرةٍ إلا وهو يُؤتَى به يومَ القيامة مَغلولاً، حتى يفكَّه العدلُ، أو يُوبِقه الجور))[71].
وفي روايةٍ: ((ما من رجلٍ يَلِي أمرَ عشرةٍ فما فوق ذلك، إلا أتَى اللهَ مغلولاً يده إلى عنقه؛ فكَّه برُّه، أو أوثقه إثمُه)).
فالولاية مسؤوليَّة جسيمة، وأمانةٌ ثقيلة، لا يصحُّ أنْ تُسنَد إلا لِمَن كان أهلاً لها، قادرًا أنْ يقومَ بحقِّها، ومَن فرَّط وقصَّر وخان الأمانة فله حَظٌّ ونصيبٌ من كَلام الحبيب: ((ما من عبدٍ يستَرعِيه الله رعيةً، يموتُ يوم يموتُ وهو غاشٌّ لرعيَّته، إلا حَرَّمَ الله عليه الجنَّة))[72].
فكلُّ مَن يَلِي أمرًا من أُمور المسلمين لا بُدَّ أنْ يتَوفَّر فيه أمران: الأمانة والقوَّة؛ ﴿ قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26].
قال ابن عباس - رضِي الله عنهما -: أي: قويٌّ فيما وَلِي، أمينٌ فيما استُودِع[73]، ا.هـ.
فالقوَّة والأمانة مُتلازِمتان، فالمؤمن إذا كان أمينًا ولم يكن قويًّا فقد لا يستطيعُ أداءَ الأمانة لضَعفِه، وإذا كان قويًّا ولكن غير أمين خانَ وبغى وطغَى، ومن هنا كان وُجوب اقتِران الأمانة بالقوَّة.
وكان عمرُ بن الخطَّاب - رضِي الله عنه - يقولُ في خطبةٍ له: ألا وإنِّي وجَدتُ صَلاحَ ما ولاني الله تعالى بأداء الأمانة، والأخْذ بالقوَّة.
وانظُر لهذا الموقفِ الجليل لعُمر القويِّ الأمين الذي سطَّر على جَبِين التاريخ صَفحاتٍ مُضِيئة تتألَّق روعةً وجمالاً وإجلالاً وحِرصًا على مَصالح الرعيَّة وأداء الأمانة.
"بَيْنَا عُثمان بن عفَّان - رضِي الله عنه - في مالٍ له بالعالية في يومٍ صائف[74] إذ رأى رجُلاً يَسُوق بِكْرَيْن، من الإبل - وعلى الأرض مثلُ الفراش من الحر، فقال: ما على هذا لو أقام بالمدينة حتى يبرد، ثم يروح،
ثم دنا الرجل فقال لمولاه: انظُر مَن هذا؟ فقال: أرى رجلاً مُعْتَمَّا برِدائه، يَسُوقُ بكرَيْن.
ثم دنا الرجل فقال: انظُر، فنظَر، فإذا عمر بن الخطاب!
فقال: هذا أمير المؤمنين.
فقام عثمان فأخرَج رأسَه من الباب، فإذا نَفْح السَّمُوم، فأعاد رأسَه حتى حاذاه، فقال: ما أخرجك هذه الساعة؟!
فقال عمر: بِكران من إبل الصَّدقة تخلَّفَا، وقد مُضِي بإبل الصدقة، فأردتُ أن ألحقهما بالحِمَى وخَشِيت أنْ يضيعَا، فيسألني الله عنهما.
فقال عثمان: يا أمير المؤمنين، هَلُمَّ إلى الماء والظِّل، ونكفيك.
فقال: عُد إلى ظِلِّك يا عثمان.
فقال عثمان: مَن أحبَّ أنْ ينظُر إلى القويِّ الأمين فلينظُر إلى هذا، فعاد إلينا فألقَى نفسه"[75].
يا خالقَ عمر سبحانك!
وقال ابن الجوزي في "مناقب عمر": وعن أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالبٍ - رضِي الله عنه - قال: رأيتُ عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - على قتبٍ يعدو، فقلت: يا أمير المؤمنين، أين تذهب؟
فقال: بعيرٌ نَدَّ (أي: فرَّ وهرب) من إبل الصدقة أطلبه.
فقلت: لقد أذللتَ الخلفاء بعدَك.
فقال: يا أبا الحسن، لا تلُمْني، فوالذي بعث محمدًا بالنبوَّة لو أنَّ عَناقًا ذهبت بشاطئ الفُرات لأُخِذَ بها عمرُ يوم القيامة.
• وعن قتادة قال: كان مُعَيقِيبٌ على بيت مال عمر فكسَح بيت المال يومًا فوجد فيه درهمًا، فدفَعَه إلى ابن عمر، قال مُعَيقِيبٌ: ثم انصرفت إلى بيتي، فإذا رسول عمر قد جاء يدعوني، فجِئت فإذا الدرهم في يده فقال: "ويحك يا مُعَيقيب! أوجدت عليَّ في نفسك سببًا؟ أَوَمالي ومالك؟ فقلت: وما ذاك؟ قال: أردت أنْ تُخاصِمني أمَّةُ محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذا الدرهم يوم القيامة.
فهذه أمانة عُمرَ - رضِي الله عنه - وغيرِه من صَحابة النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذين ربَّاهم الحبيب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على عينيه فخرَجُوا علينا بمواقف رائعة، لولا النقلُ الصحيح لقلنا: إنها ضربٌ من الخيال أو شيءٌ محالٌ، لكن لا عجب ولا غرو؛ فقُدوتهم هو الحبيب النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وانظر لهذا الموقف العظيم للنبي الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم.
فقد أخرج الأمام أحمد عن أبي أمامة سهل بن حنيف - رضِي الله عنه - قال: دخلت أنا وعروة بن الزبير على عائشة - رضِي الله عنهما - فقالت: لو رأيتما رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مرضٍ له وكانت عنده ستة دنانير أو سبعة دنانير، فأمرني رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنْ أُفرِّقها فشغلني وَجَعُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - حتى عافاه الله، ثم سألني عنها.
فقال: ((ما فعلت؟ أكنت فرقتِ الستَّة دنانير؟)).
فقلت: لا والله لقد كان شغلني وجعُك.
قالت: فدعا بها فوضعها في كفِّه فقال: ((ما ظنُّ نبيِّ الله لو لقي الله وهذه عنده))، وفي لفظٍ: ((ما ظنُّ محمدٍ بربِّه لو لقي الله وهذه عنده)).
يا الله! الرسول خائفٌ أنْ يلقى الله وعنده هذه الدنانير، فما الظنُّ بالرُّؤساء والأمراء والسَّلاطين الذين يأكُلون أموالَ الناس بالباطل؟ ماذا سيقولون لله غدًا؟!
ورَحِمَ الله عمر بن عبدالعزيز هذا الإمام الخليفة الراشد قِسطاس الموازين.. كان - رحمه الله - إمامَ هدى وسِراجًا نشَر نُور العدل في كلِّ مكانٍ من أركان دولته، وقام بأمانة الخلافة أجملَ قيام، قالت زوجته فاطمة بنت عبدالملك: "دخلتُ عليه وهو في مصلاه ودُموعه تجري على لحيته، فقلت: أحَدَثَ شيء؟ فقال: إنِّي تقلدتُ أَمْرَ أُمَّةِ محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فتفكَّرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والغازي، والمظلوم المقهور، والغريب الأسير، والشيخ الكبير، وذي العِيال والمال القليل، وأشْباههم في أقطار الأرض، فعلمت أنَّ ربي سيَسألُني عنهم يوم القيامة، وأنَّ خَصمي دُونهم محمدٌ - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى الله تعالى، فخشيت ألا تثبت حُجَّتي عند الخصومة، فرحمت نفسي فبكيت".
أحبتي في الله:
إنَّ الأمانة شأنها عظيم، وتضييعها خطرٌ كبير؛ ويدلُّ على هذا قولُ ربِّ العالمين: ﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ﴾ [الأحزاب: 72].
وهذه الآية تدلُّ على عظم منزلة الأمانة، وتفرُّد الإنسان بحَمْلِها.
قال الشنقيطي - رحمه الله - في "أضواء البيان" في شرح هذه الآية: ذكَر الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية الكريمة أنَّه عرَض الأمانة، وهي التكاليف الشرعيَّة وما يتبعها من ثوابٍ وعِقاب على السَّماوات والأرض والجبال، وأنهنَّ أَبَيْنَ أنْ يحمِلْنَها وأشفَقنَ منها؛ أي: خِفنَ من عَواقب حملها أنْ ينشأ لهنَّ من ذلك عذابُ الله وسخطه، وذلك في حال التَّقصِير، لكنْ قَبِلَ الإنسان تحمُّلها على ضَعفِه والتَزَمَ بها، ومَن لم يحفَظِ الأمانة ﴿ كان ظلومًا جَهُولاً ﴾؛ أي: كثير الظُّلم والجهل"، ا.هـ، بتصرف واختصار.
يا الله! السماء مع عِظَمِ خلقها وارتفاعها، والأرض مع سعَتِها وانِّبِساطها، والجبال على قدْر ارتفاعها وصَلابتها أبَيْنَ أنْ يَحمِلنَ هذه الأمانة الضَّخمة والتَّبِعَةَ الثقيلة وأشفَقنَ منها، وحملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوَّة، الضعيف الحول، المحدود العمر، الذي تناوَشُه الشَّهوات والنَّزعات والميول والأطماع.
إنها لَمُخاطرة عظيمة أنْ يأخُذ الإنسان على عاتقه هذه التَّبِعَةَ الثقيلة، لكنْ ما دام رضي بحمْلها فعليه أنْ يُؤدِّي ما عليه تجاهها فلا يخون الأمانة؛ امتِثالاً لقول ربِّ العالمين: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ ﴾ [الأنفال: 27].
فكم من إنسانٍ يَقرَعُ سمعه ليلَ نهارَ: ﴿ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ ﴾ [الأنعام: 72]، ولكنَّه يضيعُ الأمانة ولا يقيم!
فكم من إنسانٍ يَقرَعُ سمعه ليلَ نهارَ: ﴿ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [البقرة: 43]، ولكنَّه يضيع الأمانة ولا يُزكِّي!
وكم من إنسانٍ يقرَعُ سمعه ليلَ نهارَ: ﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ﴾ [الإسراء: 32]، ولكنَّه يضيع الأمانة ويَزني!
وكم من إنسانٍ يقرَعُ سمعه ليلَ نهارَ: ﴿ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 278]، ولكنَّه يُضيِّع الأمانة ويُرابي!
وكم من إنسانة يقرَعُ سمعها ليلَ نهارَ: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ﴾ [الأحزاب: 59]، وتسمع قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صِنفان من أهل النار لم أرَهُما - وذكر منهما -: نساء كاسيات عاريات))، ومع ذلك تخرج متبرِّجة سافرةً وقد ضيَّعت الأمانة!
قال الأصبهاني - رحمه الله - عن الأمانة: إنَّ الأمانة هي عين الإيمان، فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد قام حِينئذٍ بأداء ما أُمِرَ به، واجتنب ما نُهي عنه".
فالطاعة أمانة، والمعصية خيانة.
فعلينا أحبَّتي في الله أنْ نُؤدِّي الأمانةَ بفِعل المأمور، واجتِناب المحظور، والإكثار من الطاعات؛ لنَنال محبَّةَ الله تعالى.
فقد أخرج البخاري أنَّ الحبيب النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إليَّ ممَّا افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنت سمعَه الذي يسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، ولئنْ سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأُعِيذنَّه)).
وعلى الإنسان كذلك أنْ يسعى لأداء الأمانة تُجاه هذا الدِّين بأنْ نحمِلَه على أعناقنا لكلِّ البلاد والعباد؛ ليُصبِح الناس في كلِّ الأقطار عِبادًا للرحمن، وبذلك تتَّفق وجهةُ الإنسان مع وجهة الكون الذي يُسبِّح بحمد الله ويُقدِّس له؛ كما قال تعالى: ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ [الإسراء: 44][76].
فنَعَمْ لحِفظ الأمانة، ولا لتضييعها:
فلقد جاء الإسلام ورغَّب في حِفظ الأمانة ورهَّب من تضييعها.
1- فضَياع الأمانة دليلٌ على ضَياع الإيمان أو نُقصانه:
فقد أخرج الأمام أحمدُ من حديث أنسٍ - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا إيمانَ لِمَن لا أمانةَ له، ولا دِين لِمَن لا عهدَ له))[77].
يقول عروة بن الزبير - رضِي الله عنه -: "ما نقصت أمانةُ الرجل إلا نقص إيمانُه".
فإذا نقص الإيمان أو ذهَب فلا يكون إلا النِّفاق.
2- وضَياع الأمانة من عَلامات النفاق:
أخرج البخاري ومسلمٌ عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((آيةُ المنافق ثلاثٌ: إذا حَدَّثَ كذب، وإذا وعَد أخلَف، وإذا اؤتُمِن خان)).
وأخرج البخاري ومسلمٌ عن عبدالله بن عمرٍو - رضِي الله عنهما - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أربعٌ مَن كُنَّ فيه كان مُنافقًا خالِصًا، ومَن كانت فيه خَصْلَةٌ منهم كانت فيه خَصْلَةٌ مِن النِّفاق حتى يَدَعَها: إذا اؤتُمِن خان، وإذا حَدَّثَ كذب، وإذا عاهد غدَر، وإذا خاصمَ فَجَر)).
فإذا ضاع الإيمان وظهَر النفاق فسد الزمان.
3- وضَياع الأمانة دليلٌ على فساد الزمان:
أخرج الإمام أحمد وابن ماجَهْ عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((سيأتي على الناس سنواتٌ خدَّاعاتُ، يُصَدَّق فيها الكاذبُ، ويُكَذَّب فيها الصادقُ، ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ، ويُخوَّنُ فيها الأمينُ، وينطق فيها الرُّوَيْبضة))، قيل: وما الرُّيبضة؟ قال: ((الرجل التافه يتكلَّم في أمر العامَّة))[78].
وأخرج الأمام أحمدُ وابن ماجه عن عبدالله بن عَمرو بن العاص - رضِي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كيف بكمْ وبزمانٍ يُوشِكُ أنْ يأتَي يُغَرْبَلُ الناسُ[79] فيه غربلةً، ثم تبقى حُثَالةٌ[80] من الناس قدْ مرجَتْ[81]عُهودُهم وأماناتهم، فاخْتلَفُوا هكذا))، وشَبَّكَ بين أصابعهِ، قالوا: كيف بنا يا رسولَ الله إذا كان ذلك؟ قال: ((تأخُذون بَما تعرفون، وتدعُونَ ما تُنْكِرون، وتُقْبِلون على خاصَّتِكم، وتذَرُون أمرَ عَوامِّكم))[82].
وإذا فسَد الزمان فهذا دليلٌ على قُرب قِيامِ الساعة.
4- ضَياع الأمانة علامةٌ من علامات الساعة:
فقد أخرج البخاري عن أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - قال: بينما النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في مجلسٍٍ يُحَدِّثُ القوم جاء أعرابيٌّ فقال: متى الساعة؟ فمضى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يحدثُ، فقال بعض القوم: سمع ما قال فكره ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمعْ. حتى إذا قضَى حديثه فقال: ((أينَ أراهُ السَّائِلُ عن الساعِة؟)) قال: ها أنا يا رسول الله، قال: ((فإذا ضُيِّعَتِ الأمانَةُ فانتَظِرِ الساعة))، قال: كيف إضاعتها؟ قال: ((إذا وُسِّدَ الأمرُ إلى غيِر أهْلِهِ فانتَظِرِ الساعة)).
وبيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كيف إضاعتها :
فقد أخرج الأمام أحمد وابن ماجه عن عبدالله بن عمرو بن العاص - رضِي الله عنهما - أنَّهُ سمع رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ اللهَ يُبغضُ الفُحْشَ والتَّفحُّشَ، والذي نفسُ محمَّدٍ بيده لا تقومُ الساعةُ حتَّى يُخوَّنُ الأمينُ، ويُؤتَمنَ الخائنُ. حتَّى يظهرَ الفُحْش والتَّفحُّش، وقطيعةُ الأرْحَامِ وسوء الجوار، والذي نفسُ محمدٍ بيده إنَّ مَثَلَ المؤمن لكمثل القطعة من الذَّهبِ، نفخَ عليها صاحبها فلم تُغَيَّرْ ولم تنقصْ، والذي نفسُ محمدٍ بيده إنَّ مَثَلَ المؤمن لكمَثَلِ النحلةِ؛ أكلت طيِّبًا، ووضعت طيِّبًا، ووقعتْ فلم تكْسرْ ولم تفسد...)).
ما أعظَمَ خَطَرَ عدم تأدية الأمانة، وما أعظم السؤال عنها يوم القيامة!
جاء في "تفسير ابن أبي حاتم" عن عبدالله بن مسعود - رضِي الله عنه - قال: إنَّ الشهادة تُكفِّر كلَّ ذنبٍ إلا الأمانة، يُؤتَى بالرجل يوم القيامة، وإن كان قُتِلَ في سبيل الله تعالى، فيقال: أدِّ أمانتك، فيقول: وأَنَّى أُؤدِّيها وقد ذهبت الدُّنيا؟ فتُمثَّل له الأمانةُ في قَعر جهنم فيَهوِي إليها، فيحملها على عاتِقِه، قال: فتنزل على عاتقه فيَهوِي على أثرها أبَدَ الأبَدَ، قال زاذان: "فأتيت البراء بن عازبٍ - رضِي الله عنه - فحدَّثتُه، فقال: صدَق أخي؛ ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ﴾ [النساء: 58].
فلهذا وغيرِه كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يستعيذُ من الخيانة؛ فقد أخرج أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هُرَيرة - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان يقول: ((اللهمَّ إنِّي أعوذُ بك من الجوع؛ فإنَّه بئس الضَّجيعُ، وأعوذُ بك من الخِيانة؛ فإنها بئست البطانة))[83].
الترغيب في أداء الأمانة وبيان ما في ذلك من فضلٍ:
1- الأمانة سببٌ لمحبَّة الله ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
أخرج البيهقي في "شعب الإيمان" عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن سَرَّهُ أن يُحِبَّهُ الله ورسوله فليَصْدُق حَدِيثَهُ إذا حدَّث، وليُؤَدِّ أمانَتَه إذا اؤتُمِن))[84].
2- الأمين كالغازي في سبيل الله:
أخرج الأمام أحمدُ وأبو داود عن رافع بن خَدِيجٍ - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((العامِلُ على الصدَقة بالحقِّ كالغازي في سبيل الله حتى يرجعَ إلى بيتهِ))[85].
3- وبيَّن الرسولُ الأمين - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الخازن الأمين هو أحد المتصدِّقين:
أخرج البخاري ومسلمٌ عن أبي مُوسى الأشعري - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الخازنُ الأمين الذي يُؤَدِّي ما أُمِرَ به طيِّبَةً نفسُهُ أحَدُ المتصدِّقين)).
وفيهما أيضًا قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الخازن المسلم الأمينُ الذي يُعْطِي ما أُمِرَ به كاملاً مُوفَّرًا طيِّبَة به نفسُه فيدفعُهُ إلى الذي أُمِرَ لَهُ به، أحدُ المُتصدِّقين)).
4- الأمانة سبب البركة والنماء:
فقد أخرج البخاري ومسلمٌ أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((البيِّعان بالخِيار ما لم يتفرَّقا، فإنْ صَدَقَا وبيَّنا بُورِكَ لهما في بيعهما، وإنْ كتَما وكذَبا مُحِقتْ بركةُ بيعهما)).
- فإذا ذهبت الأمانة وكانت الخيانة فقد ذهَبت البركة؛ فقد أخرج أبو داود بسندٍ ضعيف أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: قال الله تعالى: ((أنا ثالثُ الشريكين ما لم يخنْ أحدهما صاحبَه، فإذا خانَه خرجتُ من بينهما)).
وعن نافعٍ مولى ابنِ عمر - رضِي الله عنه - قال: "خرج عبدُالله بن عمر - رضِي الله عنهما - في بعض نواحي المدينة، ومعه أصحابٌ لهُ، ووضَعُوا السفرة لَهُ، فمَرَّ بهم راعي غنمٍ، فسلَّم، فقال ابن عمر: هَلُمَّ يا راعٍ فأصِبْ من هذه السفرة، فقال له: إنِّي صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارِّ الشديد سمومُه وأنت في هذه الحال ترعى الغنم؟! فقال: والله إنِّي أبادر أيامي الخالية، فقال لهُ ابن عمر وهو يريد أنْ يختبر ورعه - وأمانته -: فهل لك أنْ تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنُعطِيَك ثمنها ونُعطِيَك من لحمِها ما تفطر عليه؟ قال: إنها ليست لي بغنمٍ، إنها غنمُ سيدي، فقال له ابنُ عمر: فما يفعلُ سيدك إذا فقَدَها؟ فولَّى الراعي عنه، وهو يرفعُ أصبعَه إلى السَّماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يُردِّدُ قولَ الراعي، يقول: قال الراعي: أين الله؟ قال: فلمَّا قدم المدينة بعَث إلى مولاه، فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتَقَ الراعي ووهَبَ له الغنم"[86].
5- الأمانة سببٌ لحِفظ الأهل والمال:
قال الخضرُ لموسى - عليه السلام - مُبيِّنًا سبب بنائه للجدار: ﴿ وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82].
وكان سعيد بن جبير يقول في قوله - تعالى -: ﴿ وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ﴾: كان يُؤدِّي الأمانات والودائع إلى أهلها، فحَفِظَ الله تعالى له كنزَه، حتى أدرَكَ ولداه، فاستخرجا كنزهما"[87].
- وقد سأل بعضُ خُلَفاء بني العبَّاس بعضَ العلمَاء أنْ يُحدِّثه عمَّن أدرَكَ، فقال: "أدرَكتُ عمر بن عبدالعزيز، قيل له: يا أمير المؤمنين، أقفرَتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيءَ لهم! - وكان في مرض موته - فقال: أدخِلُوهم عليَّ، فأدخَلوهم، وهم بضعة عشر ذكرًا، ليس فيهم بالغٌ، فلمَّا رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بنيَّ، والله ما منعتُكم حقًّا هو لكم، ولم أكن بالذي آخُذ أموالَ الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إمَّا صالح؛ فالله يتولَّى الصالحين، وإمَّا غير صالح؛ فلا أخلف لَهُ ما يستعينُ به على معصية الله تعالى، قُوموا عنِّي، قال: فلقد رأيت بعض بنيه حمل على مائة فرس في سبيل الله؛ يعني: أعطاها لِمَن يغزو[88].
6- الأمانة سببٌ للنجاة والمرور على الصراط:
فلعِظَمِ الأمانة والرَّحِمِ فإنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبر أنَّ الأمانة والرَّحِمَ تَقُومان يومَ القيامة على جنبتي الصراط عندما يمرُّ الناس على الصراط الذي وُضِعَ فوق جهنَّم - يا له من موقفٍ عصيبٍ! فكلُّ مَن ضيَّع الأمانة وقطع الأرحام فلن يثبت على الصراط، أمَّا مَن وصَل رحمَه وأدَّى الأمانة فسيثبت - إنْ شاء الله - على الصراط، ويمرُّ إلى جنَّة الخلد حيث النعيم المقيم، يتمتَّع فيها بلذَّة النَّظر إلى وجه الله الكريم.
أخرج الأمام مسلمٌ عن حُذيفةَ - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يجمعُ الله - تبارك وتعالى - الناس، فيقوم المؤمنون حتَّى تُزْلَفَ[89]لهم الجنَّةُ، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا، استفْتحْ لنا الجنَّة، فيقول: وهل أخرجكم من الجنَّة إلاَّ خطيئةُ أبيكم آدم، لستُ بصاحِبِ ذلك، اذهَبُوا إلى ابني إبراهيم خليل الله، قال: فيقول إبراهيمُ: لستُ بصاحب ذلك، إنما كُنت خليلاً من وراءَ وراءَ[90]، اعمدوا إلى موسى - عليه السلام - الذي كلَّمَهُ الله تكليمًا، فيأتون موسى - عليه السلامُ - فيقول: لستُ بصاحبِ ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحِهِ، فيقول عيسى - عليه السلام -: لستُ بصاحبِ ذلك، فيأتون محمَّدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيقوم فيُؤذَن له، وتُرسَل الأمانَةُ والرحمُ فتقومان جنبتي الصِّراطِ يمينًا وشمَالاً، فيمُرُّ أولكم كالبرقِ))، قال: قلت: بأبي أنت وأمي أي شيءٍ كمرِّ البرقِ؟ قال: ((ألم تروا إلى البرق كيف يمُرُّ ويرجعُ في طرفِة عينٍ؟ ثمَّ كمرِّ الرِّيحٍ، ثمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشدِّ الرِّحالِِ[91] تَجْري بهم أعمَالهم[92]، ونبيُّكم قائمٌ على الصِّراطِ يقول: ربِّ سلِّمْ سلِّمْ، حتى تعجزَ أعمَالُ العبادِ حتى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يستطيع السير إلاَّ زحفًا))، قال: ((وفي حافتي الصِّرَاط كلالِيبُ معلَّقةٌ مأمورةٌ بأخْذ مَن أُمرتْ به؛ فمخْدُوشٌ ناجٍ، ومكْدُوسٌ[93] في النَّار)).
7- أداء الأمانة سببٌ لدُخول الجنَّة:
أخرج الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اضمَنُوا لي سِتًّا من أنفسِكُم أضمنْ لكم الجنَّة؛ اصدقُوا إذا حدَّثُتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا اؤتمنتُم، واحفَظُوا فُروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكُمْ))[94].
وأخيرًا أخي الحبيب، لا عليك ما فاتَك من الدُّنيا إنْ كنت أمينًا:
روى أحمد والحاكم عن ابن عمر قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتَك من الدنيا: صِدْقُ الحديث، وحِفْظُ الأمانِة، وحُسن الخُلُقِ، وعِفَّةُ مَطْعَم))[95].
ويقول عبدالله بن عمرو بن العاص - رضِي الله عنهما -: "أربعُ خِلالٍ إذا أُعطيتَهُنَّ فلا يَضُرُّك ما عُزل عنك من الدُّنيا: حُسْنُ خَلِيقةٍ، وعَفافُ طُعمة، وصِدْق حديثٍ، وحِفظ أمانة"[96].
أبو عبيدة بن الجراح أمين هذه الأمَّة:
وقبل أنْ نفترق لا ننسى أنْ نُذكِّر بأمين هذه الأمَّة؛ إذ إنَّنا نتكلَّم عن الأمانة.
أخرج البخاري ومسلمٌ عن حُذَيفة بن اليمان - رضِي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال لأهل نجْران: ((لأبعَثنَّ إليكم رجلاً أمينًا حقَّ أمين))، فاستشرف لها أصحاب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فبعث أبا عبيدة[97].
وأخرج الترمذي عن أنس بن مالكٍ - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لكلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمينُ هذه الأمَّةِ أبو عُبَيدة)).
وأخرج البخاري ومسلمٌ عن أنس - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لِكُلِّ أمَّةٍ أمينٌ، وأمين أمَّتي أبو عُبَيدة بن الجرّاح))..
أمنية عُمَريَّة:
قال عمر بن الخطَّاب - رضِي الله عنه - يومًا لِمَن حوله: "تمنَّوْا، فقال بعضهم: أتمنَّى لو أنَّ هذه الدار مملوءةٌ ذهبًا فأُنفِقه في سبيل الله وأتصدَّق، ثم قال عمر: تمنَّوْا، فقالوا: ما ندري يا أميرَ المؤمنين، قال عمر: أتمنَّى لو أنها مملوءةٌ رجالاً مثلَ أبي عُبَيدة بن الجرَّاح ومُعاذ بن جَبل وسالم مَوْلَى أبي حُذيفة وحُذيفة بن اليَمان"[98].
أخرج الحاكم كذلك وأبو نُعَيم في "الحلية" واللفظ له عن عُمَرَ بن الخطاب - رضِي الله عنه - أنَّه قال لأصحابه: "تمنَّوْا، فقال بعضهم: أتمنَّى لو أنَّ هذه الدار مملوءة ذهبًا أُنفقه في سبيل الله، ثم قال: تمنَّوْا، فقال رجلٌ: أتمنَّى لو أنها مملوءةٌ لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أُنفقه في سَبيل الله، وأتصدَّق، ثم قال عمر: تمنَّوْا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، قال عمر: أتمنَّى لو أنها مملوءةٌ رجالاً مثل أبي عُبَيدة بن الجرَّاح"[99].
ونحن نتمنَّى ما يتمنَّاه عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - فنحن نتمنَّى رجالاً أمثالَ أبي عُبَيدة بن الجرَّاح؛ فإنَّ هذه الأمَّة لن تَسُودَ وتَقُودَ إلا على يد الأمناء.
نسأل الله أنْ يُكثِر منهم.









[1] (14/153-358).
[2] كما في "الكليات" صـ176.
[3]قال الألباني - رحمة الله -: هذا الحديث حسنٌ، وأورده في "مجمع الزوائد"، إلا أنَّ السؤال وقَع للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأبي الدرداء وزاد بعدَها: ((إنَّ الله لم يأمن بني آدم على شيءٍ من دِينه غيرها))، وقال: رواه الطبراني في "الكبير" وإسناده جيِّد.
[4] (2/215).
[5] البَزُّ: الثِّياب... ضربٌ من الثِّياب، انظر: "لسان العرب"، (بزز).
[6] صحَّحه الألباني في "صحيح سنن الترمذي" صـ216.
[7] الطبراني في "الكبير" (1/231)، وهو في "صحيح الجامع": 1327.
[8] (3/336).
[9] (5/176).
[10] جَذْرِ؛ أي: في أصلها، ويُقال: جِذْر بكسر الجيم وبفتحها.
[11] الوكت: الأثر في الشيء؛ كالنقطة من غير لونِه.
[12] المجل: أثَر العمل في اليد.
[13] فَنَفِطَ؛ أي: صار منتفطًا وهو المنتبر، يُقال: انتبر الجرح وانتفط: إذا ارتفع وَوَرِمَ.
[14] منتبرًا؛ أي: مرتفعًا.
[15] "السنن الكبرى"؛ للبيهقي (6/472) وفي "مكارم الأخلاق"؛ لابن أبي الدنيا صـ193.
[16] أشفى: أشرف على الدنيا وأقبلت عليه.
[17] "فتح القدير"؛ للشوكاني (3/646).
[18] "صحيح الجامع": 6710.
[19] "صحيح الجامع": 6658.
[20] "صحيح الجامع": 7179.
[21] "المغني" 12/151.
[22] "الروح" صـ223.
[23] البخاري.
[24] "فتح الباري" (13/183).
[25] البخاري ومسلم.
[26] ((فسلَّطَه على هَلكَتِه في الحقِّ))؛ أي: أنفقه في القُرَبِ والطاعات.
[27] "صحيح الجامع": 3024.
[28] "صحيح الجامع": 6159.
[29] "الصحيحة": 1989، "صحيح الجامع": 4165.
[30] "صحيح الجامع": 6158.
[31] "مجموع الفتاوى" (10/149)، "العبودية" صـ38.
[32] (20/340).
[33] "الصحيحة": 1089، "صحيح الجامع": 486.
[34] "تحفة الأحوذي" (6/93).
[35] "إحياء علوم الدين" (4/125).
[36] "الكُليات" صـ187.
[37]قال الحافظ في "الفتح" (9/221): أشدُّ موجدة؛ أي: غضبًا على أبي بكر من غضبي على عثمان، وذلك لأمْرَيْن: أحدهما: ما كان بينهما من أكيد المودَّة؛ وذلك لأنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - آخَى بينهما، والثاني: لكون عثمان أجابَه أوّلاً ثم اعتذر له.
ثانيًا: لكون أبي بكر لم يعدْ عليه جوابًا.
ووقَع في رواية ابن سعد: "فغضب عليَّ أبو بكرٍ، وقال فيها: كُنت أشدَّ غضبًا حين سكت منِّي على عثمان"، ا.هـ.
[38] البخاري.
[39] البخاري.
[40] البخاري، باب حِفظ السر.
[41] "أدب الدنيا والدين" صـ296.
[42] "التفسير الكبير"؛ للفخر الرازي (10/112).
[43] التبرُ: هو الذهب والفضة قبل أنْ يُضرَبا دَراهم ودَنانير؛ "النهاية في غريب الحديث".
[44] (20/340).
[45] أبو داود والترمذي، وهو في "الصحيحة": 123.
[46] (28/266).
[47] نزا عليها الفحل؛ أي: وثَب.
[48] فقلص؛ أي: اجتمع.
[49] "مجموع الفتاوى" (29/474).
[50] ابن ماجه، وحسَّنه الألباني في "صحيح سنن ابن ماجه".
[51] "التفسير الكبير".
[52] ابن ماجه، "صحيح الجامع": 825.
[53]إسناده جيد، وأشار الألباني إلى ضعفه في "جامع الترمذي"، ولكن له شواهد كثيرة يتقوَّى بها، قال الذهبي: هو حديثٌ جيِّد الإسناد صَحيح المعنى.
[54] "الأمانة في الإسلام" صـ190.
[55] "الصحيحة": 106، "صحيح الجامع": 7855.
[56] "صحيح الجامع": 3240.
[57] "تفسير التحرير والتنوير" (3/122).
[58] ابن ماجه عن ابن عمر، وحسَّنه الألباني في "الإرواء" (1498)، "صحيح الجامع" 1054.
[59] فرْق وفَرَق: لغتان؛ بتحريك الراء - وهو الفصيح - وتسكينها: مكيالٌ يسعُ ثلاثة آصُع، ويُقدَّر وزنُه عند الجمهور 6516 جرامًا.
[60] "فتح الباري" (4/409).
[61] "سير أعلام النبلاء" (19/445، 451)، "نزهة الفضلاء" (3/1372).
[62] ((إنَّ من أعظم الأمانة)) على حذف المضاف؛ أي: أعظم خيانة الأمة.
[63] "تفسير بن كثير" (2/293).
[64] "صحيح الجامع": 660.
[65] "تفسير بن كثير" (1/489).
[66] "فتح الباري" (3/303).
[67] حسَّنَه الألباني.
[68] "فتح الباري" 3/249.
[69] "تربية الأولاد في الإسلام": 1/154.
[70] "شرح صحيح مسلم" (12/213).
[71] "الصحيحة": 344، "صحيح الجامع": 5695.
[72] البخاري ومسلم عن معقل بن يسار.
[73] "فتح الباري" (4/440).
[74] صائف؛ أي: حارٌّ.
[75] "أسد الغابة"؛ لابن الأثير (4/165)، وسنده صحيح.
[76] تنبيه: تكرَّر لفظُ الأمانة ومُشتقَّاتها في القُرآن العظيم أكثر من أربعين مرَّة؛ "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم".
[77] "صحيح الجامع": 7179.
[78] "الصحيحة": 1888، "صحيح الجامع": 3650.
[79] يُغربل الناس: يذهَب خِيارهم، ويَبقى شِرارُهم.
[80] حُثالة من الناس: الحثالة: الرَّديء من كلِّ شيءٍ.
[81] مرَجتْ: اختلفت وفسَدت.
[82] "الصحيحة": 205، "صحيح الجامع": 4594.
[83] "صحيح الجامع": 1283.
[84] حسَّنه الألباني في "تحقيق المشكاة": 4990.
[85] "صحيح الجامع": 4117.
[86] "أسد الغابة"؛ لابن الأثير (3/341).
[87] "حلية الأولياء" (4/287).
[88] "مجموع الفتاوى" (28/219).
[89] تُزْلف: تُقرَّب.
[90] وراءَ وراءَ: كلمة مُؤكِّدة؛ كشذر مذر، وشغر مغر، فرَكَّبَها وبَناهما على الفتح.
[91] شد الرِّحال: الشدُّ هو العدو البالغ الجرْي.
[92] تجري بهم أعمالُهم: هو تفسيرٌ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((فيمرُّ أوَّلكم كالبرق، ثم كمَرِّ الرِّيح)).
[93] مكدوس في النار؛ أي: مدفوعٌ فيها.
[94] "الصحيحة": 1470، "صحيح الجامع": 1018.
[95] "الصحيحة": 733، "صحيح الجامع" 873.
[96] "الأدب المفرد" صـ109.
[97]تنبيه: قال العلماء: الأمانة مشتركةٌ بينه وبين غيرِه من الصَّحابة، ولكنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خَصَّ بعضَهم بصفاتٍ غلبَتْ عليهم، وكانوا بها أخصَّ؛ "شرح النووي لمسلم" (15/273).
[98] الحاكم في "المستدرك".
[99] "الحلية" (1/102).

شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الأربعاء، 26 ديسمبر 2012 ' الساعة  3:54 م


 
Toggle Footer