العلماء الربانيون
ودورهم الرسالي نحو الأمة
النميري بن محمد الصبار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن
والاه، أما بعد:
فإنَّ العلماءَ الرَّبانيينَ هم (النُّجوم المضيئةُ) في سماء هذا
العالمِ؛ فبهم يهتدي النَّاسُ في مساربِ هذه الحياةِ؛ فإذا غابوا أو غُيِّبوا سادَ
الظلامُ الدَّامسُ أرجاء الأرض، وتخبَّطَ الخلقُ في دياجيرِ الظلمةِ؛ فلا يعرفونَ
طريقاً، ولا يهتدونَ سبيلاً؛ كما قال أحدُ السلفِ-رحمه الله-: ((مثل العلماء مثل
النجوم التي يُهتدى بها، والأعلام التي يُقتدى بها، إذا تغيَّبتْ عنهم تحيَّروا،
وإذا تركوها ضَلُّوا))[1].
وكُلَّما عصفتْ بالأُمَّةِ رياحُ الفتنِ العاتيةِ، وضَربتْ بها
أعاصيرُ المحنِ القاسيةِ؛ عَظُمتْ الضَّرورةُ إلى هذا الطراز الفريدِ من أهل
العلمِ، وصارتْ الأُمَّةُ في مسيس الحاجة إليهِ.
لذا كان الحديثُ عن هذا الموضوع في غايةِ الأهمية، وذلكَ في ضوءِ
المحاور الآتية-بإذن الله-:
المحورُ الأوَّلُ: سماتُ العالمِ الرَّبانيِّ حقًّا.
المحور الثاني: دَورُ العلماء الرَّبانِيِّينَ الرِّساليُّ نحو الأُمَّةِ.
المحورُ الأوَّلُ: سماتُ العالمِ الرَّبانيِّ حقًّا:
يتَّسِمُ العالمُ الربانيُّ بصفاتٍ ساميةٍ جليلةٍ؛ لعلَّ أبرزها ما
يلي:
1-الرُّسوخُ في ميراثِ الأنبياءِ-عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ- وهو
العلمُ القائمُ على الوحيِ المنزلِ من عند اللهِ عَزَّ وجلَّ- وفق المنهجية
الصحيحة المستندة على اتباع المحكم وترك المتشابه.
فَعَنْ أبي الدرداء-رضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله صلَّى الله
عليه وسلَّم: ((...وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ
الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ
فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ))[2].
وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ
مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ
في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ
وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ
فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ ﴾ [آل عمران: 7].
قال شيخ الإسلام ابنُ تيمية-رحمه الله-: ((أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ
الصَّحَابَةِ كَانُوا يَعْرِفُونَ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَا يَعْرِفُهُ غَيْرُهُمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ))[3].
قال الإمام الشاطبي-رحمه الله-: ((﴿ مِنْهُ آيَاتٌ
مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب ﴾؛ فجعل المحكم -وهو الواضح المعنى الذي لا
إشكال فيه ولا اشتباه- هو الأمَّ والأصلَ المرجوع إليه، ثم قال: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ﴾، يريد: وليست بأم
ولا معظم، فهي إذا ً قلائل، ثم أخبر أن اتباع المتشابه منها شأن أهل الزيغ والضلال
عن الحق والميل عن الجادة، وأما الراسخون في العلم، فليسوا كذلك، وما ذاك إلا
باتباعهم أم الكتاب وتركهم الاتباع للمتشابه))[4].
ويقول الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله- في شأن العلماء
الرَّبانيين- هم: ((ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به
علماً وعملا ودعوة للخلق إلى الله على طرقهم ومنهاجهم، وهذه أفضل مراتب الخلق بعد
الرسالة والنبوة...وهؤلاء هم الربانيون وهم الراسخون في العلم وهم الوسائط بين
الرسول وأمته فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه...))[5].
2-التَّمسُّكُ بمنهاج النبوةِ القائمِ على هدي الرَّسولِ صلَّى الله
عليه وسلَّمَ وهدي الخلفاءِ الراشدينَ؛ والبعدِ عنِ البدعِ و محدثاتِ الأمورِ؛ كما
قالَ صلَّى الله عليه وسلَّمَ: ((فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ
الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا
بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ
بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ...))[6].
3- خشية الله عز وجلَّ؛ كما قال تعالى-في شأن أهل العلم-: ﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ
لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى
عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ﴾ [الإسراء: 107]، و قال سبحانه: ﴿ وَيَخِرُّونَ
لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ﴾ [الإسراء: 109]، وقال-جلَّ وعلا-: ﴿ ... إِنَّمَا يَخْشَى
اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء... ﴾ [فاطر: 28].
4- الصبرُ واليقينُ؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ
أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يُوقِنُونَ ﴾ [السجدة: 24].
قال الحافظ ابن كثيرٍ-رحمه الله-: ((أي لما كانوا صابرين على أوامر
الله, وترك زواجره , وتصديق رسله واتباعهم فيما جاؤوهم به , كان منهم أئمة يهدون
إلى الحق بأمر الله , ويدعون إلى الخير, ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر, ثُمَّ
لما بَدَّلوا وحَرَّفوا وأَوَّلُوا , سُلِبوا ذلك المقام , وصارتْ قلوبهم قاسية
يُحرِّفون الكَلِمَ عنْ مواضعه , فلا عملاً صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً... قال بعض
العلماء: بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدِّين))[7].
5- العملُ بمقتضى العلم.
6- الدِّراسةُ الذَّاتية والقراءةُ الواعيةُ للفهمِ والإدراكِ.
7- تعليم العلمِ وتربية الناسِ على صغارهِ قبل كبارهِ.
8- الحكمة.
9- الحلم.
10- الفقه.
وهذه الصفات كُلُّها جاءت في كلماتِ السلف[8] في تفسير قول الله
تعالى: ﴿ ...وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ
الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ ﴾ [آل عمران: 79].
يقول الإمام الطبري-رحمه الله-: ((و"الربّاني" هو
المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ، وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين،
يَرُبُّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم، وكان
كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه
المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم...
فَـ"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم
وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"،
لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم
والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم
ودينهم))[9].
وقال الحافظ ابن حجر-رحمه الله-: ((وقد فسَّرَ ابن عباس:
"الرَّباني " بأنه الحكيم الفقيه، ووافقه ابن مسعود فيما رواه إبراهيم
الحربي في غريبه عنه بإسناد صحيح.
وقال الأصمعي والإسماعيلي: الرَّباني نِسبةً إلى الرَّبِّ؛ أي الذي
يقصد ما أمره الرَّبُّ بقصده من العلم والعمل. وقال ثعلب: قيل للعلماء ربانيون
لأنهم يربون العلم أي يقومون به، وزيدت الألف والنون للمبالغة. والحاصل أنه اختلف
في هذه النسبة هل هي نسبة إلى الرب أو إلى التربية، والتربية على هذا للعلم، وعلى
ما حكاه البخاري لتعلمه. والمراد بصغار العلم ما وضح من مسائله، وبكباره ما دق
منها. وقيل يعلمهم جزئياته قبل كلياته، أو فروعه قبل أصوله، أو مقدماته قبل
مقاصده. وقال ابن الأعرابي: لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً مُعلِّماً
عاملاً))[10].
قال الإمامُ ابن القيم-رحمه الله-: ((ومعنى الرَّبانيِّ في اللغة:
الرَّفيع الدرجة في العلم، العالي المنزلة فيه، وعلى ذلك حملوا قوله تعالى لولا
ينهاهم الربانيون وقوله كونوا ربانيين، قال ابن عباس حكماء فقهاء وقال ابو رزين
فقهاء علماء، وقال أبو عمر الزاهد سالتُ ثعلبا عن هذا الحرف وهو الرباني؛ فقال:
سألتُ ابن الأعرابي؛ فقال: إذا كان الرجل عالما عاملا معلما قيل له هذا رباني فإن
خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني))[11].
دَورُ العلماءِ الرَّبانيينَ الرِّساليُّ نحو الأُمَّةِ:
مَنْ تأمَّلَ نصوصَ الكتابِ والسنةِ، وجالَ ببصرهِ في سيرةِ
العلماءِ الرَّبانيينَ من سلفِ هذه الأُمَّة، لاح له أنَّ دورَ العلماءِ
الرَّبانيينَ يُعدُّ-بحقٍّ- أعظمَ رسالةٍ تُوجَّهُ للمجتمعاتِ البشريةِ، وهو ماثلٌ
فيما يلي:
1- بيانُ الحقِّ، وتبليغهُ للنَّاسِ، وعدمُ كتمانهِ عنهم؛ وفي هذا
المعنى العظيم يقولُ اللهُ تعالى: ﴿ وَإِذَ أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ
الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء
ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران: 187].
وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ
وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ
يَلعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ ﴾ [البقرة: 159].
وقالَ جلَّ وعلا: ﴿ وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ﴾ [يس: 17].
2- تصفيةُ العلمِ مِنْ لوثاتِ التحريف، وتنقيتهُ مِنْ شوائبِ التزييف؛
عملاً بحديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلم: ((يحمل هَذَا الْعلمَ منْ كُلِّ
خلفٍ عدوله، ينفون عَنهُ تَحْرِيف الغالينَ، وانتحال المبطلينَ وَتَأْويل
الْجَاهِلين))[12].
3- تعليمُ النَّاس ما يحتاجونَ إليه من علومِ الكتابِ والسُّنةِ،
وتَزْكيتُهم منْ منطلقِ هذا العلمِ الصحيحِ؛ كما قال تعالى: ﴿ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى
الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ
آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ
مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ﴾ [آل عمران: 164].
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية-رَحِمَهُ اللهُ-:
"وَأَهْلُ السُّنَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ يَعْلَمُونَ
الْحَقَّ وَيَرْحَمُونَ الْخَلْقَ؛ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ فَلَا
يَبْتَدِعُونَ"[13] .
وفي ذلك يقولُ الإمامُ ابنُ القيم -رحمهُ اللهُ-: "والعالمُ
الَّذِي قد عرفَ السُّنةَ والحلالَ والحرامَ وطرقَ الخيرِ والشَّرِّ؛ ففي مخالطتهِ
الناسَ وتعليمهم ونصحِهم في دينهم أفضلُ منَ اعتزالهِ وتفريغِ وقتهِ للصلاةِ
وقراءة القرآنِ"[14] .
4- الدَّعوةُ إلى اللهِ؛ و إحياءُ شعيرةِ الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيِ
عن المنكر؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ
صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [فصلت: 33].
وقالَ-جلَّ وعلا-: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى
بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مُعَاذًا - قَالَ بَعَثَنِى رَسُولُ
اللهِ-صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهَ وَأَنِّى
رَسُولُ اللهِ...))[15].
وقال-سبحانه-: ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104].
وقالَ تعالى: ﴿ فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ
يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا
مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ
مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 116].
وقالَ-عَزَّ مِنْ قائلٍ-: ﴿ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ
وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُواْ يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 63].
5- إفتاءُ النَّاسِ، وبيانُ أحكامِ الشَّريعةِ لهم فِيما يُشكلُ
عليهم منْ مسائلَ في حياتهم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ
تَعْلَمُونَ *بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ﴾ [النحل: 43-44].
6-إسداءُ النَّصيحةِ للمسلمينَ وبَذْلها لهم على اختلاف شرائحهم
وكآفَّةِ مستوياتهم؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِىِّ-رضِيَ اللهُ عنه- قَالَ قَالَ
رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ
النَّصِيحَةُ إِنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ)). قَالُوا لِمَنْ يَا رَسُولَ اللهِ
قَالَ: ((لِلهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَئِمَّةِ الْمُؤْمِنِينَ
وَعَامَّتِهِمْ وَأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ))[16].
7- توجيهُ النَّاسِ للحقِّ؛ و تثبيتُهم عليهِ؛ ولا سيما عند نزولِ
الفتنِ العظيمةِ وحلولِ النوازلِ الجسيمةِ؛ كما قالَ تعالى: ﴿ وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ
مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ
مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ
الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [النساء: 83].
وقد جاءَ هذا المعنى العظيم في قصةِ قارونَ-أخزاه الله-؛ حيثُ
وجَّهَ أهلُ العلمِ النَّاسَ في غمرةِ فتنةِ قارونَ نحوَ الوجهةِ الصَّحيحةِ؛ كما
قال تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ
الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ *وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ
خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ ﴾ [القصص: 79-80].
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ
وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يُكَلِّمُ النَّاسَ: (( فَقَالَ اجْلِسْ يَا عُمَرُ))؛
فَأَبَى عُمَرُ أَنْ يَجْلِسَ، فَأَقْبَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ،
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: ((أَمَّا بَعْدُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ يَعْبُدُ مُحَمَّدًا
صَلَّى اللُه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ يَعْبُدُ اللهَ فَإِنَّ الله حَيٌّ لَا يَمُوتُ. قَالَ اللهُ: ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا
رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ إِلَى قَوْلِهِ الشَّاكِرِينَ ﴾، وَقَالَ: ((وَاللهِ
لَكَأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى
تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فَتَلَقَّاهَا مِنْهُ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَمَا أَسْمَعُ
بَشَرًا مِنْ النَّاسِ إِلَّا يَتْلُوهَا))، فَأَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ قَالَ: ((وَاللهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ سَمِعْتُ أَبَا
بَكْرٍ تَلَاهَا فَعَقِرْتُ حَتَّى مَاتُقِلُّنِي رِجْلَايَ وَحَتَّى أَهْوَيْتُ
إِلَى الْأَرْضِ حِينَ سَمِعْتُهُ تَلَاهَا عَلِمْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ مَاتَ))[17].
8- جهادُ أهلِ الزَّيغِ والضَّلالِ؛ فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ-رضِيَ الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: ((مَا
مِنْ نَبِىٍّ بَعَثَهُ اللهُ فِى أُمَّةٍ قَبْلِى إِلاَّ كَانَ لَهُ مِنْ
أُمَّتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ
بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لاَ
يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ
فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَمَنْ
جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ
حَبَّةُ خَرْدَلٍ))[18].
9- التشاور مع أربابِ الفهم والعقل في حَلِّ المعضلات وعلاج
المشكلاتِ؛للوصولِ للحقِّ والصَّوابِ؛ والأصل في ذلك: قولُ الله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ ﴾ [الشورى: 38]، وقولُ الله تعالى: ﴿ ... وَشَاوِرْهُمْ فِي
الأَمْرِ... ﴾ [آل عمران: 159].
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ-رَضِيَ اللهُ عنهما- أَنَّ
عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّأْمِ حَتَّى إِذَا
كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ
الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ
الشَّأْمِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: (( ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ
الْأَوَّلِينَ)) فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ
قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ فَاخْتَلَفُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ
وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ
وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَرَى أَنْ
تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ قَالَ:
((ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ)) فَدَعَوْتُهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ فَسَلَكُوا سَبِيلَ
الْمُهَاجِرِينَ وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ فَقَالَ ارْتَفِعُوا عَنِّي ثُمَّ
قَالَ: (( ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ
مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ)) فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ
رَجُلَانِ فَقَالُوا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى
هَذَا الْوَبَاءِ فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ؛
فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ.
...قَالَ فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ
مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا
سَمِعْتُ رَسُولَ اللهَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( إِذَا
سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ
وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ))؛ قَالَ فَحَمِدَ اللهَ
عُمَرُ ثُمَّ انْصَرَفَ[19].
10- سياسةُ النَّاسِ في ضوءِ منهجِ الأنبياءِ-عليهم الصَّلاةُ
والسَّلامُ-: إصلاحاً لفسادِ الأُممِ، وتجديداً لِما اندرسَ مِنْ معالمِ الدِّينِ؛
كما قال تعالى-في شأن أنبيائهِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ-: ﴿ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وقال تعالى-حكايةً عنْ نبيهِ
شعيبٍ-عليهِ السَّلامُ-: ﴿ ...إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا
تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴾ [هود: 88].
وقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كَانَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمْ الْأَنْبِيَاءُ كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ
نَبِيٌّ وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ
قَالُوا فَمَا تَأْمُرُنَا قَالَ: فُوا بِبَيْعَةِ الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ
أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ))[20].
قال القاضي عياض-رحمه الله-: ((ويعني بهذا الكلام: أنّ بني إسرائيل
كانوا إذا ظهر فيهم فساد، أو تحريفٌ في أحكام التوراة - بعد موسى - بعث الله تعالى
لهم نبيًّا يقيم لهم أمرهم، ويصلح لهم حالهم، ويزيل ما غُبّرَ وبُدِّلَ من التوراة
وأحكامها))[21].
ويقول الإمام ابن قيم الجوزية-رحمه الله-: ((فإنَّ هذه الأمة أكمل
الأمم، وخير أمة أخرجت للناس، ونبيها خاتم النبيين لا نبي بعده، فجعل الله العلماء
فيها كُلَّما هَلكَ عالم خَلَفه عالم؛ لئلا تُطمسَ معالم الدين وتَخفى أعلامه.
وكان بنو إسرائيل كلما هلك نبي خلفه نبي، فكانت تسوسهم الأنبياء،
والعلماء لهذه الأمة كالأنبياء في بني إسرائيل))[22].
[1] أخرجه ابن أبي شيبة في:"مصنفه": (8/253) عن كاتبِ أبي
قلابة.
[2] إسناده صحيح.أخرجه أبوداود في:"سننه": (3/354،
رقم3643).
[3] "مجموع الفتاوى": (17/428).
[4] "الموافقات": (10/210)، ت.فضيلة الشيخ مشهور حسن.
[5] "طريق الهجرتين": (1/516).
[6] إسناده صحيح.أخرجه الترمذي في:"سننه": (5/44، رقم2676).
[7] "تفسير القرآن العظيم": (3/560) بتصرف.
[8] انظر: "تفسير الطبري": (6/541-542).
[9] "تفسير الطبري": (6/544).
[10] "فتح الباري": (1/162).
[11] "مفتاح دار السعادة": (1/124).
[12] إسناده صحيح.أخرجه البيهقي في:"سننه الكبرى"(10/209،
رقم 20700) بلفظ: (يرث)، وابن عساكر في:"تاريخه":(7/38).
[13] "مجموع الفتاوى": (16/96).
[14] "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين": (1/93).
[15] أخرجه مسلم في:"صحيحه": (1/370/ح130).
[16] إسناده صحيحٌ. أخرجه أبوداود في:"سننه": (4/441/ح4946).
[17] أخرجه البخاري في:"صحيحه": (4/1618، رقم4187).
[18] أخرجه مسلم في:"صحيحه": (1/50/ح188).
[19] أخرجه البخاري في:"صحيحه": (5/2163، رقم5397).
[20] أخرجه البخاري في:"صحيحه": (3/1273، رقم3268)، و مسلم
في:"صحيحه": (6/17/ح4879) من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-.
[21] "المفهم لما أشكل من صحيح مسلم": (5/422) للقاضي عياض،
وانظر: "فتح الباري": (10/255، رقم3196)، و"مجموع الفتاوى":
(19/117).
[22] "مفتاح دار السعادة": (1/451).
شبكة الألوكة
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأربعاء، 26 ديسمبر 2012 ' الساعة