الأربعاء، 26 ديسمبر 2012



حقيقة الحياة الدنيا

د. هاني درغام
1- قصيرة وسريعة الزوال:
الدنيا سريعة الفَناء، قريبة الانقضاء، تعِدُ بالبقاء، ثم تخلفُ في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرَّة، وهي سائرة سيرًا عنيفًا، ومُرتحلة ارتحالاً سريعًا، ولكنَّ الناظرَ إليها قد لا يحس بحركتها؛ فيطمئن إليها، وإنَّما يحسُّ عند انقضائها، ومثالُها الظل؛ فإنَّه متحرِّك ساكن، متحرك في الحقيقة، ساكن الظاهر، لا تُدرك حركته بالبصر الظاهر، بل بالبصيرة الباطنة؛ قال الله - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 24-25].
والأستاذ سيد قطب رحمه الله - تعالى - يشرح:
"ذلك مثل الحياة الدنيا التي لا يَملك الناس إلا متاعها، حين يرضون بها، ويقفون عندها، ولا يتطلَّعون منها إلى ما هو أكرم وأبقى، هذا هو الماء ينزلُ من السماء، وهذا هو النبات يَمتصه ويختلط به، فيمرع ويزدَهر، وها هي ذي الأرض كأنَّها عروس مجلوة تتزين لعُرس وتتبرَّج، وأهلها مزهوون بها، يظنون أنها بجهْدهم ازدهرتْ، وبإرادتهم تزيَّنتْ، وأنهم أصحاب الأمر فيها، لا يغيِّرها عليهم مُغَيِّر، ولا يُنازعهم فيها منازِعٌ، وفي وسط هذا الخصب الممرع، وفي نشوة هذا الفرح الملعلع، وفي غمرة هذا الاطمئنان الواثق: ﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ﴾ [يونس: 24].
في ومضة، وفي جملة، وفي خطفة، وذلك مقصود في التعبير بعد الإطالة في عَرْض مَشْهد الخصب والزينة والاطمئنان.
وهذه هي الدنيا التي يستغرق فيها بعضُ الناس ويُضيِّعون الآخرة كلها؛ لينالوا منها بعضَ المتاع، هذه هي، لا أمْن فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات فيها ولا استقرار، ولا يَملك الناس من أمرها شيئًا إلا بمقدار، هذه هي: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25].
فيا لبُعد الشُّقة بين دار يُمكن أن تُطْمَس في لحظة، وقد أخذتْ زُخْرفها، وازَّيَّنتْ وظَنَّ أهلُها أنهم قادرون عليها، فإذا هي حصيدٌ كأنْ لَم تَغْنَ بالأمس، ودار السلام التي يدعو إليها الله، ويهدي مَن يشاء إلى الصراط المؤدِّي لها، حينما تنفتح بصيرته، ويتطلع إلى دار السلام".
ووصَفَ القرآن الكريمُ الدنيا كزهرةٍ تزهرُ بنضارَتها، تسحَر الألباب، تستهوي القلوبَ، ثم لا تلبث إلا برهةً حتى تذبُل، فتتلاشى تلك النضَارة، وتحطِّمها الريح كأنَّها لَم تكنْ، هكذا مثل الدنيا، زهرةٌ فتَّانة، غرَّارة تغدرُ وتغوي، فإذا أقبلتْ عليها النفوس، وتعلَّقتْ بها الألباب، زوَتْ أيَّامها، واستحالتْ نضرتُها إلى هشيم، فغَدَتْ نعمتُها غرورًا.
وصدَقَ الله - تعالى -: ﴿ وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا * الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً ﴾ [الكهف45- 46].
إنَّ هذا التصويرَ البليغ يُجلي حقيقةَ الدنيا؛ كَيْ لا يصبِحَ الناس عبيدًا لها، تستهويهم خُضْرتها، ويؤثرونها على نعيمِ الآخرة.
لطيفة في تشبيه الدنيا بالماء:
لأنَّ الماء لا يستقر في موضع، وكذلك الدنيا.
ولأن الماء لا يبقى ويذهب، كذلك الدنيا تَفْنى.
ولأن الماء لا يَقْدِر أحدٌ أنْ يدخلَه ولا يَبْتل، كذلك الدنيا لا يَسْلم أحدٌ دَخَلها من فِتنتها وآفتها.
ولأنَّ الماء إذا كان بقَدرٍ كان نافعًا مُنْبِتًا، وإذا جاوَزَ المقدار، كان ضارًّا مُهْلِكًا، وكذلك الدنيا: الكَفاف منها ينفع، وفضولُها يَضرُّ.
ولأن الماء مَهْمَا حاولتَ أنْ تمسكه بكفِّك، تفلَّتَ منك، وكذلك الدنيا مَهْمَا حرصتَ عليها وتشبَّثْتَ بها، فلا بد أن تفوتَك.
وإليك هذا البيانَ النبوي من حبيبك - عليه الصلاة والسلام - عن عبدالله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقد نام على رمالِ حَصِير وقد أثَّرَ في جَنبه، فقلنا: يا رسول الله، لو اتَّخَذْنا لك وِطاءً تجعلُهُ بينك وبين الحصير يَقيك منه، فقال: ((ما لي وللدنيا؛ ما أَنا والدنيا إلا كَرَاكبٍ استَظَلَّ تحت شجرة، ثم راحَ وتَرَكها))؛ صحيح الترمذي.
وللإمام ابن القَيِّم - رحمه الله - تعليق:
"فتأمَّل حُسْن هذا المثال ومطابقته للواقع سواء، فإنها في خضْرَتها كشجرة، وفي سرعة انقضائها وقَبْضها شيئًا فشيئًا كالظِّلِّ، والعبد مسافرٌ إلى ربِّه، والمسافر إذا رأى شجرة في يوم صائفٍ لا يَحسُن به أن يَبني تحتها دارًا، ولا يتَّخِذها قرارًا، بل يستظلُّ بها بقَدر الحاجة، ومتى زادَ على ذلك انقطع عن الرفاق".
أخي في الله:
إن عُمر الدنيا - واللهِ - قصير، وأغنى غني فيها فقير، وكأني بكَ في عرصة الموت، وقد استنشقتَ ريح الغربة قبل الرحيل، ورأيتَ أثر اليُتم في الولد قبل الفِراق، فتيقَّظ إذًا من رَقْدة الغَفلة، وانتبه من السكرة، واعلمْ أنَّه في يوم من أيام الحياة ستُدْبِر الدنيا وتُقْبل الآخرة، وما كان بعيدًا أضحى قريبًا، وما كنتَ تراه في الذاهبين سيراه الأحياء فيك، موت فجأة، أو مرض بغْتَة، أو أنت على فراشك تُحْمَل إلى قَبْرك، إنها عِبَرٌ تُرَى، ومَصَارع تَترى، ونحن في غَفْلتنا نائمون، وفي غَيِّنا تائهون.
واحفظ هذه الوصيَّة النبويَّة الثمينة، عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: أخَذَ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بِمَنْكِبي، فقال: ((كنْ في الدنيا كأنَّك غريبٌ، أو عابر سبيل))، وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصْبَحت فلا تنتظر المساءَ، وخُذْ من صحَّتك لمرضك، ومن حياتك لموتِك"؛ صحيح البخاري.
والإمام ابن القَيِّم - رحمه الله - يضربُ الأمثال:
"مثل أهل الدنيا في غَفْلتهم، مثل قومٍ رَكِبوا سفينة، فانتهتْ بهم إلى جزيرة، فأمَرَهم الملاَّح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذَّرهم الإبطاءَ، وخوَّفهم مرورَ السفينة، فتفرَّقوا في نواحي الجزيرة، فقَضَى بعضُهم حاجته، وبَادَرَ إلى السفينة، فصَادَف المكان خاليًا، فأخَذَ أوْسَعَ الأماكن وألْيَنَها وأوْفَقَها لِمُراده، ووقَف بعضُهم في الجزيرة ينظر إلى أزهارها وأنوارها العجيبة، ويسمع نَغَمات طيورها، ويُعجبه حُسْنُ أحجارها، ثم حدَّثَتْه نفسُه بفَوْت السفينة، وسرعة مُرورها، وخَطَرِ ذَهابها، فلم يصادِفْ إلاَّ مكانًا ضَيِّقًا، فجلس فيه، وأكبَّ بعضُهم على تلك الحجارة المستحسنة، والأزهار الفائقة، فحمل منها حملَه، فلمَّا جاء لَم يجدْ في السفينة إلاَّ مكانًا ضعيفًا، وزاده حمله ضِيقًا، فصارَ محمولُه ثقلاً عليه ووبالاً، ولَم يَقْدِرْ على نبذه، بل لَم يجدْ من حملِه بُدًّا، ولَم يجدْ له في السفينة موضعًا، فحَمَله على عاتقه، ونَدِم على أخْذه، فلم تنفعْه النَّدَامة، ثم ذَبُلَتِ الأزهار وتغيَّرت رائحتُها، وآذاه نتنُها، وتولج بعضُهم في تلك الغياض، ونَسِي السفينة، وأبعد في نزهته؛ حتى إنَّ الملاَّح نادَى الناسَ عند دَفْع السفينة، فلم يَبلغْه صوتُه؛ لاشتغاله بملاهيه، فهو تارة يتناول من الثمر، وتارة يشمُّ تلك الأنوار، وتارة يعجب من حُسن الأشجار، وهو على ذلك خائفٌ من سَبُع يخرج عليه، غير منفكٍّ من شوك يتشبَّثُ في ثيابه، ويدخل في قَدَميه، أو غُصن يجرحُ بَدَنه، أو عوسج يَخرِق ثيابه ويَهتك عورته، أو صوت هائل يُفزعه، ثم من هؤلاء مَن لَحِق السفينة ولَم يَبقَ فيها موضع، فماتَ على الساحل، ومنهم مَن شَغَله لَهْوه، فافترسته السباع، ونَهشتْه الحَيَّات، ومنهم مَن تاه، فهامَ على وجْهه حتى هَلك.
فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة، ونسيانهم مَوردَهم وعاقبةَ أمرهم، وما أقبح بالعاقل أن تَغرَّه أحجار ونبات يصير هشيمًا، قد شَغَل بالَه وعوَّقه عن نجاته ولَم يَصحبْه!".
أخي في الله، اعلمْ أنَّ الْخَلق كلهم مسافرون، حياتهم سفرٌ دائم، ليس فيهم أحد واقف، جنين في بطن أُمِّه، ثم مولود، فبالِغ عاقل مسؤول، ثم تأتي ساعة الموت، فإذا هو داخل القبر، ومقدار لبْثِ الإنسان في الدنيا قصير، قصير جدًّا، يراه في الآخرة أنه كان ساعة من نهار؛ ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ﴾ [الأحقاف: 35].
أو يراه كأنه كان عشيَّة أو ضُحاها؛ ﴿ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا ﴾ [النازعات: 46].
فواعجباه! هذه هي الدنيا قصيرة عاجلة، هزيلة ذاهبة، زهيدة تافهة، تنطوي في نفوس أصحابها أنفسهم، فإذا هي عندهم عشيَّة أو ضُحاها، أفمن أجْلِ عشيَّة أوضُحاها يضحُّون بالآخرة، ويتقاتلون على الدنيا ويتطاحنون، ويرتكبون من أجْلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان؟! أفمن أجْل شهوة زائلة يدَعون الجنة مَثَابةً ومأْوى؟! ألا إنها الحَمَاقة الكبرى، الحماقة التي لا يرتكبها إنسان يَسمع ويَرى!
2- مزينة بالشهوات:
قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14].
حُبِّبَتِ الشهوات للناس، وحُسِّنَتْ في أعينهم وقلوبهم؛ حتى صارَ حُبُّها غريزة أو فِطرة عندهم، فمَن أحبَّ شيئًا ولَم يُزَيَّنْ له، يُوشك أن يَعدِلَ عنه يومًا ما، ومَن زُيِّن له حُبُّه، فلا يكاد يَعدل عنه، ولقد عبَّر القرآن عن الأشياء المشتهاة بالشهوة ذاتها؛ مبالغةً في كونها مشتهاة مرغوبًا فيها، وإشارة إلى أنَّ الشهوة مذمومة؛ حتى يعتدلَ الإنسان في حُبِّه لها، ويُعَدِّل غريزته نحوها، ثم ذَكَر الله - تعالى - أصنافًا ستة من المشتهيات والملذات، وهي:
1- النساء:
فإنَّ الرجل متعلِّق بالمرأة، مَيَّال إليها؛ فهي مطمح النظر، وموضع العناية، وإليها تَسكن نفسه، وبدأ بالنساء؛ لأنَّ الفتنة بهنَّ أشدُّ؛ كما ثبتَ في الصحيح أنه - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما تركتُ بعدي فتنةً أضرَّ على الرجال من النساء)).
فقد تحمل النساء على الفاحشة، وقطيعة الرحم، وعدم تحرِّي الحلال في الرزق، أمَّا إذا كان القصْد بتعلُّق الرجل بالمرأة هو ما يقوم به من عِفَّة فرْجٍ، وغَضِّ بصر، ونظافة قلب، فيجد كلٌّ من الزوجين في الآخر زينتَه وبهجةَ نفسه، فهذا مظهر خير، وزينة طيبة مُحببة.
2- البنون:
فهم فِلْذة الأكباد، وقُرَّة الأعين، لكنَّهم مع الأموال فتنة تتطلَّبُ الْحَذر، وسببُ حُبِّ الأولاد والزوجات واحدٌ، هو بقاء النوع الإنساني، وحُب بقاء الأثر والسمعة والذِّكْر.
3- القناطير المقنطرة من الذهب والفضة:
وحُب المال غريزة في البشر؛ لأنه وسيلة لتحقيق الحوائج وتلبية الرغبات، وذَمُّ المال ليس لذاته؛ فهو نعمة من الله، وإنما لِمَا يؤدِّيه من طُغيان وتكبُّر وفسوق، كما قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [العلق: 6 - 7].
أما إذا أدَّى المسلم فيه حقوقَ الله والناس، وشَكَر النعمة، ووصَلَ به الرحم، وأنفَق منه في سبيل اللّه، كان خيرًا وسببًا للسعادة والتقرُّب إلى الله.
4- الخيل المُسَوَّمة:
وهي من المتَع التي يفاخِر بها الناس بعضَهم ويتنافسون فيها، وهي مذمومة إنْ كانت سببًا للشرِّ، والبُعد عن الله، وإهمال واجبات الله، وتكون مَحمودة إنِ استُخْدِمَتْ للجهاد في سبيل الله، ويدخل في الخيل المسوَّمة كلُّ ما اقْتُنِي للمباهاة والزينة، أو لأغراض القوة على إطلاقها، ومنه السيارات والطائرات.
5- الأنعام:
وهي ثروة الناس الأصليَّة إلى عهْدٍ قريب، وبها معايشهم وتفاخُرهم وتكاثُرهم، وهي زينة، فإنِ اقتناها صاحبُها بقَصْد المعيشة، كانتْ خيرًا، وإنِ اقْتناها مُفاخَرة ورِيَاءً، كانتْ شرًّا.
6- الحرث:
الزرع والنبات هو مصدرٌ دائمٌ للحياة في البادية والْحَضر، والحاجة إليه أشدُّ من الحاجة إلى ما سواه من الأنواع السابقة، فإنْ قُصِد به نفعُ العِباد، كان صاحبُه مأْجورًا، وإنْ قُصِدَ به التكثُّر والبَطَر، كان عليه شرًّا.
أخي في الله، هذه زينة الحياة الدنيا، وهذه مُتعها، وهى مصدر الخير ومصدر الشر فيها، وبها تكون الرِّفعة، وبها يكون السقوط، وبها تكون العِزَّة، وبها تكون الذِّلَّة، والإرادة الإنسانية هي التي تجعلها في أحد الطريقين، فإنْ كانتِ الإرادة قويَّة حازمة، جعَلَتْ من هذه الأمور مصدرَ خيرٍ وطريقًا إلى الجنة، وإنْ تحكَّم الهوى، وغَلَب الشيطان، وضَعُف الوجدان الديني، كانتْ هذه الأمور مصدرَ شرٍّ وطريقًا إلى النار.
فهي طريق الجنة عند الأبرار، وطريق النار عند الأشرار، وكل امرئ وما تَهوى نفسُه.
ولقد أجاد الأستاذ محمد قطب - رحمه الله - في الحديث عن هذه الآية، فقال: "فالإنسان إذًا بفِطرته مشتَمِل على دوافع فِطريَّة وضوابط فِطرية، وفي حالة التوازن بين هذه وتلك، فإن الإنسان يكون كما خَلَقه الله ﴿ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾، أما حين تغلب الدوافع الفِطريَّة، فتنقلب إلى شهوات مُدَمِّرة، فهنا ينقلب الإنسان ﴿ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ﴾، وهذا هو المجال الذي يعمل فيه الشيطان؛ تزيين هذه الشهوات بقدر زائدٍ عن الحَدِّ، وتخذيل الضوابط عن العمل وتخديرها؛ حتى تخفَّ قبضتها، فيتسنَّى للشهوات أن تنطلِقَ بلا ضابط".
أخي، إنَّ جميع ما أُوتيه الْخَلق؛ من الذهب والفضة، والطير والحيوان، والأمتعة والنساء، والبنات والبنين، والمآكل والمشارب، والجنات والقصور، وغير ذلك من مَلاذ الدنيا ومتاعها، كلُّ ذلك متاعُ الحياة الدنيا وزينتها، يتمتَّع به العبدُ وقتًا قصيرًا؛ مَحشُوًّا بالمنغصِّات، مَمزوجًا بالمكدِّرات، ويتزيَّن به الإنسان زمانًا يسيرًا ثم يزول ذلك سريعًا؛ فعلى المؤمن ألا يُفْتَنَ بهذه الشهوات، ويجعلها أكبرَ هَمِّه والشغل الشاغل له عن آخرته، فإذا استمتعَ بها بالقصْد والاعتدال ووقفَ عند حدود الله، سَعِد في الدارين، ووُفِّقَ لخير الحياتين.
واستمع إلى هذا الكلام القَيِّم من الإمام ابن القَيِّم - رحمه الله -:
"شهوات الدنيا في القلب لذيذة، كشهوات الأطعمة في المعدة، وسوف يجد العبدُ عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكَراهة والنتن والقُبح ما يجده للأطعمة اللذيذة إذا انتهتْ في المعدة غايتها، وكما أنَّ الأطعمة كلَّما كانتْ ألذَّ طعمًا، وأكثر دسمًا، وأكثر حلاوة، كان رجيعُها أقْذَرَ، فكذلك كلُّ شهوة كانتْ في النفْس ألذَّ وأقوى، فالتأذِّي بها عند الموت أشدُّ، كما أنَّ تفجُّع الإنسان لمحبوبه إذا فقَدَه يقوى بقَدْر مَحبَّة المحبوب".
وأقولها لك كما قالها د. خالد أبو شادي:
"الشهوات شكلُها حُلو، وطعمُها حُلو، ولكنَّها الحلاوة التي تتبعُها المرارةُ، وتَلْحقها التَّبعات، وتتلوها الْحَسرات، وتخامِرُ العقلَ فتُسكره، وتدخل عليه فتغلبه، وإنما تصرَعُ عقول أذكى الأذكياء وأحْكَم الْحُكماء عند الْتِهَاب الشهوات".
أخي الحبيب، إنَّ نقطة الابتلاء في حياة الإنسان هي هذه الزينة الموجودة في الأرض، هل يتناول منها القَدر الذي أباحَه الله وأحلَّه؟ أو ينتهبُ ما حرَّم الله ولا يلتزم بطاعته؟
فإلى عُشَّاق الشهوات، إليكم بيانَ الإمام ابن القَيِّم - رحمه الله -: "وتلك لعَمْرُ الله الفتنة الكبرى، والبَليَّة العُظمى، التي استعبَدَتِ النفوس لغير خلاَّقها، ومَلَكتِ القلوب لِمَن يسومُها الهوانَ من عُشَّاقها، وألْقَتِ الحرب بين العِشق والتوحيد، ودَعَتْ إلى مُوالاة كلِّ شيطان مَريد، فصَيَّرَتِ القلب للهوى أسيرًا، وجعلتْه عليه حاكمًا وأميرًا، فأَوْسَعَتِ القلوب مِحْنة، وملأتْها فتنة، وحالتْ بينها وبين رُشْدها، وصرفتْها عن طريق قصْدها، فيا حسرة المحبِّ الذي باعَ نفسَه لغير الحبيب الأول بثمنٍ بَخسٍ، وشهوة عاجلة، ذهبتْ لَذَّتُها، وبَقِيَتْ تبعتُها، وانقضَتْ منفعتُها، وبَقِيَتْ مَضرَّتُها، فذهبتِ الشهوة، وبَقِيَتْ الشقوة، وزَالتِ النشوة، وبَقِيَتِ الحسرة".
فيا مَن في الشهوات مُنغمِس، وفي الملذات مُنتكِس، وعن الناصح مُعْرِض، وعلى المرْشد مُعترض، عقله مسبي في بلاد الشهوات، وأمله موقوف على اجتناء اللذات، وسيرته جارية على أسوأ العادات، وهِمَّته واقفة مع السُّفليَّات.
يا أيُّها السادرون المخمورون، أيها اللاهون المتكاثِرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون، أيها المخدوعون بما أنتم فيه عمَّا يَليه، أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حُفرة ضَيِّقة لا تكاثُرَ فيها ولا تفاخُر، استيقظوا وانظروا؛ فقد: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 1- 2].
3- دار ابتلاء واختبار:
لقد خَلَق الله الدنيا في صورة جميلة مَليحة، تستميل الناس بجمالها، وتَغرُّهم بزينتها، وتَخدعهم بشهواتها؛ امتحانًا وابتلاءً: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [الكهف: 7].
إنَّ هذه الدنيا هي دارُ المصائب والشرور، وليس فيها لذَّةٌ إلا وهي مَشوبة بالكدر، لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات، ولا ينفكُّ سرورُها عن المنغِّصات، سلامتُها تُعْقِبُ السقم، وشبابُها يسوق إلى الهَرَم، ونعيمُها لا يُثْمر إلا الحسرة والندم، إنْ أضحكتْ يومًا أبكتْ أيامًا، وإن سرَّتْ حينًا أحزنتْ أحيانًا، صحيحُها إلى سقمٍ، وكبيرُها إلى هَرَم، وحيُّها إلى فَنَاء، ووجودُها إلى عدم، شرابُها سراب، وعمارتُها خراب، هذا مستبشرٌ بمولود فَرِح بقُدومه، وذاك مغمومٌ لفَقْد حبيبٍ حزين لفِراقه.
والعلامة القرضاوي يؤكِّد:
"ذلك أنَّ طبيعة الحياة الدنيا وطبيعة البشر فيها تجعلان من المستحيل أن يخلوَ المرءُ فيها من كوارث تُصيبه، وشدائد تَحلُّ بساحته، كم يَخفق له من عملٍ، أو يَخيب له أمل، أو يموت له حبيبٌ، أو يَمرض له بَدَن، أو يُفْقَد منه مال، أو.. أو... إلى آخر ما يَفيض به نهرُ الحياة".
إخواني في الله، نحن في قاعة امتحان كبيرة نُمْتحن فيها كلَّ يوم، فكلُّ ما فيها امتحان وابتلاء؛ المال فيها امتحان، والزوجة والأولاد امتحان، والغِنى والفقر امتحان، والصحة والمرض امتحان، وكلُّنا مُمْتَحن في كلِّ ما نملِك، وفي كلِّ ما يَعترينا في هذه الحياة، حتى نلْقَى الله؛ ﴿ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
فأنت أيها المعافَى مُمتحن، ولكن ما أحسستَ أنَّكَ في قاعة امتحان حتى ابتُليتَ، وأنت أيها المريض مُمتحن، ولكنْ ما أحسستَ أنَّك في قاعة امتحان حتى شُفِيتَ.
وليس فينا مَن هو أكبر من أن يُمْتَحَن، كيف لا؟ والنبي - عليه الصلاة والسلام - يقول:
((أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثَلُ فالأمثل، يُبْتلَى الرجل على حسب دينِه، فإنْ كان في دِينِه صُلبًا، اشتَدَّ بلاؤه، وإنْ كان في دِينه رِقَّة، ابتُلِي على قَدرِ دينِه، فما يبرَح البَلاءُ بالعبدِ؛ حتى يَتركَه يَمشِي على الأرض ومَا عَليه خَطيئة))؛ رواه أحمد والترمذي.
كما أنه ليس فينا من يَملِك رَفْضَ هذا الامتحان.
وأقولها لك بلغة ابن عطاء الله - رحمه الله -:
"لا تستغرب وقوع الأَكدار، ما دُمْتَ في هذه الدار؛ فإنها ما أبرزتْ إلا ما هو مُستحق وصْفها، وواجِب نَعْتها".
ولسائل أنْ يَسألَ: لماذا جُعِلَتِ الدنيا دارَ ابتلاء؟ أقول لك: إنَّ في ذلك حِكَمًا كثيرة، منها:
1- تحقيق العبودية لله ربِّ العالمين:
إنَّ الله - تعالى - يربِّي عبدَه على السرَّاء والضرَّاء، والنعمة والبلاء، فيستخرج منه عبوديَّته في جميع الأحوال، فإن العبد على الحقيقة مَن قام بالعبوديَّة على اختلاف الأحوال، أما عبد السرَّاء والعافية الذي يَعبد الله على حرفٍ، فإنْ أصابَه خيرٌ اطمأنَّ به، وإنْ أصابتْه فِتنة، انقلَبَ على وجْهه، فليس من عَبيده الذين اختارَهم لعبوديَّته، فالابتلاء كِير القلوب، ومَحَكُّ الإيمان، وآيةُ الإخلاصِ، ودَليل التسليم، وشاهدُ الإذعانِ لله، وهو كالدواء النافع يسوقه إلى المريضِ طبيبٌ رَحيمٌ به، ناصحٌ له، عليمٌ بمصلَحته، فحقُّ المريض العاقِل الصبرُ علَى تجرُّع مصابِه وعَلقمِه، ولا يتقيَّؤُه بالسخط والشكوَى؛ لئلا يتحوَّل نفعُه ضَررًا؛ ﴿ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا ﴾ [النساء: 19].
2- كفارة للذنوب:
قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة؛ في نفسه وولده وماله، حتى يَلْقَى الله وما عليه خطيئة))؛ رواه الترمذي.
إنَّ المصائب والبلاء امتحانٌ للعبد، وهي علامة حبٍّ من الله له؛ إذ هي كالدواء، فإنَّه وإنْ كان مُرًّا، إلا أنَّك تقدِّمه على مَرارته لِمَن تحبُّ، ولله المثلُ الأعلى، ونزول البلاء خيرٌ للمؤمن من أن يُدَّخَر له العقاب في الآخرة، كيف لا وفيه تُرفَع درجاته، وتُكَفَّر سيِّئاته؟!
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا أرادَ الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أرادَ الله بعبده الشرَّ أمْسَكَ عنه بذنبه، حتى يُوافِي به يوم القيامة))؛ صحيح الترمذي.
وقال الفضْل بن سَهْل - رحمه الله -: "إنَّ في العِلَل لنعَمًا لا ينبغي للعاقل أن يَجهلَها؛ فهي تمحيصٌ للذنوب، وتعرُّض لثواب الصبر، وإيقاظٌ من الغَفلة، وتذكير بالنعمة في حال الصحة، واستدعاءٌ للتوبة، وحَضٌّ على الصَّدَقة".
3- حصول الأجر ورفعة الدرجات:
روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها - قالتْ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يُصِيبُ المؤمن مِن شوكة فما فوْقَها إلا رفعَهُ اللهُ بِها درجة، أو حَطَّ عنه بها خطِيئة)).
والمؤمن يبحث في البلاء عن الأجْر، ولا سبيل إليه إلا بالصبر، ولا سبيل إلى الصبر إلا بعزيمة إيمانيَّة، وإرادة قويَّة، وليتذكَّر هذه الهَدِيَّة القَيِّمة من حبيبك - صلى الله عليه وسلم -: ((عجبًا لأمرِ المؤمن؛ إنَّ أمرَه كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إنْ أصابتْه سرَّاءُ شَكَر، فكانَ خيرًا له، وإنْ أصابتْه ضرَّاءُ صبَرَ، فكان خيرًا له))؛ صحيح مسلم.
فما أجمل تلك اللحظات التي يفرُّ فيها العبدُ إلى ربِّه، ويعلم أنه وحْدَه هو مُفَرِّج الكرب، وما أعظم الفرحة إذا نزَلَ الفرجُ بعد الشِّدة! ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة : 155 - 157].
4- الابتلاء درسٌ من دروس التوحيد والإيمان والتوكُّل:
الابتلاء يُطلعك عمليًّا على حقيقة نفْسك؛ لتعلمَ أنَّك عبدٌ ضعيف، لا حول لك ولا قوة إلا بربِّك، فتتوكَّل عليه حقَّ التوكُّل، وتلجأ إليه حقَّ اللجوء، حينها يَسقط الجاه والتِّيه والخُيلاء، والعُجب والغرور والغَفلة، وتَفهم أنَّك مسكين يلوذُ بمولاه، وضعيف يلجأ إلى القوي العزيز - سبحانه.

والإمام ابن القَيِّم - رحمه الله - يشرح:
"فلولا أنه - سبحانه - يداوي عباده بأدْوِيَة الْمِحَن والابتلاء، لطَغوا وبَغوا وعَتوا، والله - سبحانه - إذا أرادَ بعبد خيرًا سقاه دواءً من الابتلاء والامتحان على قَدْر حاله، يستفرغ به من الأدواء المهلِكة، حتى إذا هَذَّبه ونقَّاه وصفَّاه، أهَّله لأشرف مَراتب الدنيا، وهي عبوديَّته، وأرفع ثواب الآخرة، وهو رؤيته وقُربه".
5- إظهار حقائق الناس ومعادنهم:
قال - تعالى -: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2 - 3].
قال ابن القيم - رحمه الله - في تفسير هذه الآية:
"إذًا فالاختبار ليس عن جَهْله - سبحانه - بعبْده، ولكن حِكْمة ذلك في كَشْف مَن يدَّعي الإيمان لنفسه وتجربته أمام عَينيه، فيسقط الوهم في أنَّه عميقُ الإيمان، أمَّا الكاذبون فيختبرهم - سبحانه - ليعيدهم إلى الإيمان تائبين مُتذكِّرين نادمين، فإنْ لَم يتوبوا، ولَم يتذكَّروا، عرَّاهم أمام الناس، وخَلَّص صفوفَ المؤمنين منهم، فالابتلاء يزيد رجال الإيمان نضوجًا وصلابة، والدُّعاةَ الصادقين عُمقًا وثباتًا، فهو ليس شرًّا بالمؤمنين أبدًا؛ لأنه خيرٌ يسوقه الله لعباده؛ ليعودوا إليه بعِزَّة الإيمان، ويعودوا إلى ربِّهم ضارعين، يلجؤون إليه بقلوب مُرتبطة به؛ تَذْكره وتَشْكره، وتَلْهج بذِكْره، قويَّة بالله، ثابتة على دينه؛ لأن الله - جل جلاله - يريد ذلك منهم".
ورَحِم الله الفُضيل بن عِياض حين قال: "الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزَلَ بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم؛ فصار المؤمنُ إلى إيمانه، وصارَ المنافق إلى نِفَاقه".
6- الابتلاء يذكرك بذنوبك لتتوب منها:
ومِن حِكمة الابتلاء والمصيبة أنَّها تُذَكِّر العبد بذنوبه، وتزيل قَسوة القلب، وتُرْجِع العبد إلى الله؛ ليقفَ ببابه، ويتضرَّع إليه ويَستكين، وتَقطع قلبَ المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين، والإقبال على الله وحْدَه، وأنَّ المصيبة تُعَرِّف الْمُصاب قَدْرَ نعمة العافية؛ لأن النِّعم لا تُعْرَف أقدارُها إلا بعد فَقْدها، فإذا استمرَّتِ الحياة هانئة، فسوف يصِلُ الإنسان إلى مرحلة الغرور والكِبر، ويَظنُّ نفسَه مستغنيًا عن الله، فمِن رحمته - سبحانه - أن يَبتليَ الإنسان؛ حتى يعودَ إليه.
7- الابتلاء يكشف لك حقيقة الدنيا وزَيفها:
فالدنيا متاع الغرور، والحياة الصحيحة الكاملة وراءَ هذه الدنيا، هي حياة لا مَرَض فيها ولا تَعَب؛ ﴿ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [العنكبوت: 64].
أما هذه الدنيا، فنَكَدٌ وتَعب وهَمٌّ؛ ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4].
فلو عرَف الإنسان قَدر الدنيا وما طُبِعَتْ عليه من الكَدر والمصائب والأحزان، وعَرَف أنَّ ما فيها مَحضُ خِداع وسراب بقِيعة يَحسبه الظمآن ماءً، حتى إذا جاءه لَم يجدْه شيئًا، واستعان بما وهَبَه الله من نور الدين وقصر أَمَله، لَمَا أثَّرَتْ فيه المصائب - بإذن الله؛ لأنَّ قوَّة الإيمان بالله وقضائه وقَدره يُثْمران الْهدى والطمأنينة والرضا بما قَسَم وقَدَّر.
8- الابتلاء يذكرك بفضل نعمة الله عليك بالصحة والعافية:
فالمصائب تُذَكِّرك بالمنعِم والنِّعم، فتكون سببًا في شُكْر الله - سبحانه - على نِعمته وحَمْده؛ فإنَّ هذه المصيبة تشرح لك - بأبلغِ بيان، وأصْرح بُرهان - معنى العافية التي كنتَ تمتعْتَ بها سنين طويلة، ولَم تتذوَّقْ حلاوتها، ولَم تُقَدِّرْها حقَّ قَدرها، وصدق مَن قال: "الصحة تاجٌ على رؤوس الأصحاء، لا يراه إلا المرْضَى".
ومَن غير المبتَلَى يَعرِف أنَّ الدنيا كلمة ليس لها معنًى إلا العافية؟!
وهذه برقية من شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمه الله -: "مُصيبة تُقْبِل بها على الله، خيرٌ لك من نعمة تُنْسيك ذِكْرَ الله".
أخي في الله، يا من بُلِيتَ بمصيبة أو رَزِيَّة؛ من مَرضٍ مُزعجٍ، أو ألَمٍ مُضْنٍ، أو فَقْد قريبٍ، أو مَوْت حبيبٍ، عليك بالصبر؛ فإنه مَرضاة للربِّ، مُؤْنِس للقلب، مُذْهِب للهَمِّ، طارِدٌ للغَمِّ، مُعظم للأجْر، مُؤْذِن بالعِوَض، عليك بالصبر؛ فإنه مَطِيَّة لا تَكبو، وصارِمٌ لا يَنْبُو، وحِصْن لا يُهْدَم، وحَدٌّ لا يُثْلَم، عليك بالصبر؛ فإنه حُسْنُ توفيقٍ، وأَمَارة سعادة، وعُنوان إيمان، ودليل إذعان.

جرعات شافية:
إلى كلِّ مُبتلًى، إليك هذه الجرعات التي استخرَجَها الإمام ابن القَيِّم - رحمه الله - من صيدليَّته الإيمانيَّة، فاحرص على تناول هذه الجرعات، وخاصة عند حلول المصائب:
1-أن يُطفئ نارَ مصيبته ببردِ التأسِّي بأهْل المصائب، ولينظر يَمْنة، فهل يَرى إلا مِحنة؟ ثم ليعطف يَسرة، فهل يرى إلا حَسرة؟ وأنه لو فتَّش العالَم، لَم يرَ فيهم إلا مُبتلًى؛ إمَّا بفَوات محبوب، أو حصول مكروه، وأنَّ شرورَ الدنيا أحلامُ نومٍ، أو كظِل زائلٍ.
2-أن يَعلمَ أنَّ فواتَ ثواب الصبر والتسليم - وهو الصلاة والرحمة والهداية التي ضَمِنها الله على الصبر والاسترجاع - أعظمُ من المصيبة في الحقيقة.
3-أن يعلمَ أنَّ الْجَزَع يُشمتُ عدوَّه، ويسوء صديقَه، ويُغضِب ربَّه، ويَسرُّ شيطانه، ويُحبط أجْره، ويُضْعف نفسَه، وإذا صبَرَ واحْتسبَ، وأرضى ربَّه، وسَرَّ صديقَه، وساء عدوَّه، وحَمل عن إخوانه وعزَّاهم هو قبل أن يعزوه، فهذا هو الثبات والكمال الأعظم، لا لطْم الخدود، وشَق الجيوب، والدعاء بالويل والثُّبور، والسخط على المقدور.
4-أن يعلمَ أنَّ ما يعقبُه الصبر والاحتساب من اللذة والمسرَّة أضعافُ ما كان يَحصل له ببقاء ما أُصيب به لو بَقِي عليه، ويَكفيه من ذلك "بيت الحمد"الذي يُبْنَى له في الجنة على حَمْده لربِّه واسترجاعه، فلينظر: أيُّ المصيبتين أعظم؛ مصيبة العاجلة، أم مصيبة فوات بيت الْحَمد في جنة الْخُلد؟
5-أن يعلمَ أنَّ الذي ابتلاه بها أحْكمُ الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنَّه - سبحانه - لَم يُرْسِلْ إليه البلاء ليُهْلكه به ولا ليُعَذبه به؛ وإنما ليَمتحن صَبْره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرُّعه وابتهاله، وليراه طريحًا ببابه، لائِذًا بجَنابه، مكسور القلب بين يديه، رافعًا قصص الشكوى إليه.
6-أن يعلمَ أنَّه لولا مِحَنُ الدنيا ومصائبها، لأصابَ العبدَ من أدواء الكِبر والعُجب، والفرعنة وقسوة القلب ما هو سببُ هَلاكه، عاجلاً وآجلاً، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقَّدَه في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب، تكون حمية له من هذه الأدواء، وحِفظًا لصحة عبوديَّته، واستفراغًا للمواد الفاسدة الرديئة المهلِكة منه؛ فسبحان مَن يرحم ببلائه، ويَبتلي بنعمائه!
7-أن يعلمَ أنَّ مَرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة، يَقلبها الله - سبحانه - كذلك، وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة، ولأن ينتقلَ من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة، خيرٌ له من عكس ذلك، فإنْ خَفِي عليك هذا، فانظرْ إلى قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حُفَّتِ الجنة بالمكاره، وحُفَّتِ النار بالشهوات))؛ متفق عليه.
إخواني في الله، اعلموا أنَّكم تعيشون بدار ابتلاءٍ وامتحان، وتحيون حياة فِتنٍ واختبار، رماح المصائب عليكم مُشْرَعَة، وسهام البلاء إليكم مُرْسَلَة، قضاء الله فيكم نافذٌ صائر، وحُكمه فيكم حاصل سائر، لا رادَّ لِمَا قضاه وقدَّره، ولا مانع لِمَا أراده ودبَّره؛ ﴿ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [غافر: 68]، ﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا ﴾ [الأحزاب: 38].
وتذكَّروا أنَّ مَن تفكَّر في سرِّ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 153]، أَنِس بجليسه، ومَن تذكَّر: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، فَرِح بامتلاء كيسه.
4 - دار إغواء:
منذ اللحظة التي طَرَد الله - عز وجل - فيها إبليس من رحمته، ولَعَنه بسب تكبُّره ورَفْضه السجودَ لآدمَ - عليه السلام - رَفَع الشيطان رايةَ التحدِّي، وأعلن الحرب، وهتف في غَيظٍ: ﴿ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ص: 82].
فأعدَّ أسلحته، ونَثَر سهامه، ونَصَب شباكه، ونظَّم صفوفه من أجْل إضلالك وإغوائك، وحدَّد ساحة المعركة، إنها الأرض؛ ﴿ لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [الحجر: 39].
وحدَّد عُدَّته فيها، إنه التزيين؛ تزيين القبيح وتجميله، والإغراء بزينته المصطَنعة على ارْتكابه.
حقًّا، إنها معركة شَرِسة، ضارية، طويلة، معركة صاخبة تُستخدم فيها الأصوات والخيل والرَّجِل على طريقة المعارك والمبارزات، يُرسَل فيها الصوت، فيُزعج الخصوم، ويُخرجهم من مراكزهم الحصينة، أو يستدرجهم للفخِّ المنصوب والمكيدة المدبَّرة، فإذا استُدْرِجوا إلى العَرَاء أخذتْهم الخيل، وأحاطتْ بهم الرجال، هذا ما أعدَّه الشيطان لك، فماذا أعددتَ أنت له؟
ولعلَّك تسأل - أخي القارئ - إذا كان الشيطان مصدرَ كلِّ فتنة وبلاءٍ، ومنبع كلِّ شرٍّ وشَقَاء، فلماذا خَلَقه الله - عز وجل؟!
والإجابة على هذا السؤال عند الإمام ابن القَيِّم - رحمه الله - فيقول: "في خَلْق إبليس وجنوده من الْحِكم ما لا يُحيط بتفصيله إلا الله، فمن ذلك:
1- ما يترتب على مُجاهدة الشيطان وأعوانه من إكمال مراتب العبوديَّة:
فمنها أن يكملَ لأنبيائه وأوليائه مَراتب العبودية بمجاهدة عدوِّ الله وحِزْبه، ومُخالفته ومُراغمته في الله، وإغاظته وإغاظة أوليائه، والاستعاذة به منه، واللجوء إليه أن يُعيذَهم من شرِّه وكَيْده، فيترتَّب على ذلك من المصالح الدنيوية والأخرويَّة ما لَم يَحصلْ من دونه.
2- جَعَله الله عِبرة لمن اعتبر:
ومنها أنَّ الله جعَلَه عِبرة لِمَن خَالَف أمرَه، وتكبَّر عن طاعته، وأصرَّ على معصيته، كما جعَلَ ذنبَ أبي البشر عِبرة لِمَن ارتكبَ نَهْيه، أو عصَى أمرَه، ثم تابَ ونَدِم ورَجَع إلى ربِّه، فابْتَلَى أبوي الجنِّ والإنس بالذنب، وجعَلَ هذا الأب عِبرة لِمَن أصرَّ وأقام على ذنبه، وهذا الأب عِبرة إنْ تابَ ورَجَع إلى ربِّه.
3- جعله فتنة واختبارًا لعباده:
ومنها أنَّه مَحَكٌّ امتحَنَ الله به خَلْقه؛ ليتبيَّنَ به خَبيثُهم من طيِّبهم؛ فإنَّه - سبحانه - خَلَق النوعَ الإنساني من الأرض، وفيها السهل والحزن، والطيِّب والخبيث، فلا بد أنْ يظهرَ ما كان في مادتهم، واقْتَضَتْ حِكْمته البالغة أنْ خلَطَهم في دار الامتحان، فإذا صاروا إلى دار القَرار يميز بينهم، وجعَلَ لهؤلاء دارًا على حِدَة، ولهؤلاء دارًا على حِدَة، حِكْمة بالغة، وقُدرة باهِرة.
4- الابتلاء به لتحقيق الشكر:
ومِن هذه الْحِكم أنَّه - سبحانه - يحبُّ أنْ يُشْكَر بحقيقة الشكر وأنواعه، ولا ريبَ أنَّ أولياءَه نالوا بوجود عدوِّ الله إبليس وجنوده، وامتحانهم به - من أنواع شُكْره ما لَم يكنْ ليحصل لهم دونه، فكم بين شُكْر آدمَ وهو في الجنة قبل أن يخرجَ منها، وبين شُكْره بعد أن ابْتُلِي بعدوِّه، ثم اجْتَبَاه ربُّه وتابَ عليه وقَبِلَه.
5- في خلق إبليس قيام سوق العبودية:
ومنها أنَّ المحبَّة والإنابة والتوكُّل، والصبر والرضا ونحوها، أحبُّ العبودية إلى الله - سبحانه - وهذه العبودية إنما تتحقَّق بالجهاد، وبَذْل النفس لله، وتقديم مَحبَّته على كلِّ ما سواه، فالجهاد ذِروةُ سَنَام العبوديَّة وأحبُّها إلى الربِّ - سبحانه - فكان في خَلْق إبليس وحِزْبه قيامُ سوق هذه العبوديَّة وتوابعها، التي لا يُحصي حِكَمَها وفوائدها وما فيها من المصالح إلا اللهُ.
6- وبِخَلْقه يُظهر الله لعباده حِلمه وصبْره:
ومنها أنَّه - سبحانه - يحبُ أن يظهرَ لعباده حِلمه وصبره، وسَعة رحمته وجُوده، فاقتضى ذلك خَلْقَ مَن يُشْرك به ويضادُّه في حُكْمه، ويجتهد في مُخالفته، ويسعى في مساخطه، وهو مع ذلك يسوق إليه أنواع الطيِّبات، ويَرزقه ويُعافيه، ويُمكِّن له من أسباب ما يلتذُّ به من أصناف النِّعم، ويعامله من بِرِّه وإحسانه بضدِّ ما يعامله هو به من كُفْره وشِرْكه وإساءَته.
7- خلق الله خَلْقَه بحيث يظهر فيهم أحكام أسمائه وصفاته وآثارها:
فالله - سبحانه - لكمال مَحبَّته لأسمائه وصفاته، اقتضى حَمْدُه وحِكْمته أنْ يَخلقَ خَلْقًا يظهر فيهم أحكامها وآثارها، فلِمَحبَّته للعفو خَلَق مَن يحسن العفو عنه، ولمحبَّته للمغفرة خَلَق مَن يغفر له ويَحْلُم عنه، ويَصبر عليه ولا يَعاجله، ولمحبَّته لعَدْله وحِكْمته خَلَق مَن يظهر فيهم عَدْله وحِكْمته، ولمحبَّته للجُود والإحسان والبِرِّ خلَقَ مَن يعامله بالإساءَة والعِصيان، وهو - سبحانه - يعامله بالمغفرة والإحسان، فلولا خلقُه مَن يجري على أيديهم أنواع المعاصي والمخالَفات، لفَاتتْ هذه الْحِكم والمصالح وأضعافها.
والخلاصة:
أرْسَلَ الله الشياطين على الإنسان لمهمة يؤدُّونها، هذه المهمة هي الابتلاء والاختبار؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2].
إذًا فهم يُؤدُّون مهمَّتهم التي خُلِقوا من أجْلها، فيقفوا للمؤمن؛ ليصرفوه عن الإيمان، فيُمَحِّص الله المؤمنين بذلك، ويُظهر صَلابة مَنْ يثبتُ أمام كَيْد الشيطان.
وإذا أردْنا أن نُحدِّد مهمَّة الشيطان في كلمات قليلة، فإنَّ أساسَ هذه المهمَّة أن يَجعلَنا ننسى أنَّ الله موجود، وأنَّه مُطلع علينا؛ يُرَاقب أفعالَنا وحَرَكاتنا وسَكناتنا، يسمع ويرى، يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، يعلم السرَّ وأخفى، فالذي يرتكب معصية في الْخَفاء يعتقد أنَّه ما دام اختَفَى عن أَعْين الناس، فإنَّ أحدًا لَم يَرَه، ويَنسى أنَّ الله يسمع ويرى، ولا تَخفى عليه خافيةٌ، وهذا ما يريده الشيطان، فإذا ما أنساك الشيطان وجودَ الله لحظةَ المعصية، يبدأ في كَشْف نقاط ضَعفك؛ ليتسلَّل منها، فيصوِّر المعصية في صورة مُحَبَّبة إلى النفس، فالشيطان لا يَهمه نوعُ المعصية، ولكن يَهمُّه حدوثُها، فإذا حاوَلَ إغراءَك بمعصية ما ولَم يَجِدْ منك استجابة، أسرع يُزَيِّن لك معصية أخرى، فإنْ أغلقتَ عليه كلَّ المنافذ، فإنَّه لا ييئَس، بل يحاول أن يستغلَّ ضَعفك في أيِّ وقتٍ؛ ليوقِعَك في المعصية، فيتحقَّق له ما يريد، المهم ألا يخرجَ صِفْرَ اليدين في هذه المعركة.
وإذا أردْنا أنْ نُحَدِّد هَدَف الشيطان في هذه المعركة، فهو الاستيلاء على القلب، بزَرْع بذور الشهوات والمغْرِيات والملذَّات فيه؛ لأنه يعلم أنه متى سَيْطَرَ على القلب، فإنه يَكسب تأييد الجوارح، فيفعل بها ما يشاء، فتنظر إلى الحرام، وتسمع الحرام، وتسعى بيدك ورِجْلك إلى الحرام، وهكذا، فالشيطان في كلِّ يوم، بل في كل لحظة يبعثُ ويوجِّه ويُحَرِّك آلاف الأفراد والجماعات؛ للانشغال بالدنيا والإفساد في الأرض، والاستمتاع بالشهوات والمحرَّمات، وغَشَيان الفواحش والآثام، ومُزاولة السرقات والزنا، وشُرْب الخمور، وأكْل أموال الناس بالباطل، وظُلم الناس وإيذاء المسلمين، ولا يَفْتُر عن ذلك ليلاً ونهارًا.
ولقد وقَعَ في فتنة الشهوات ما لا يُحصى من البشر؛ من مسلم وكافر، فأعرضوا عن أوامر الله، واشتغلوا بتكميل شهواتهم؛ من المطاعم والمشارب والملابس، والمساكن والمراكب والمناكِح؛ ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ﴾ [مريم: 59].
إنَّ هذا العدوَّ اللدود العنيد لا يَملِك سلاحًا واحدًا يستعمله مع الناس جميعًا، ولو كان الأمر كذلك، لاستطعْنا أنَّ نَفُلَّ سلاحَه، وأنْ نتغلَّب على مكايده، ولكنَّه يستعمل لكلِّ حالة سلاحًا يناسبها، وإذا لَم يُفْلِحْ هذا السلاح استبْدَلَ به غيره، ولا يزال يَنثر كِنانته، ويبحث في جَعْبته؛ حتى يجِدَ السلاح الذي يتوصَّل به إلى غايته.
لقد عَلِم هذا الخبيث أنَّ في الإنسان نقاطَ ضَعفٍ كثيرةً، هي في الحقيقة أمراض، والشيطان يُعَمِّق هذه الأمراض في نفس الإنسان، بل تُصبح مَداخِلَه إلى النفس الإنسانيَّة، ومِن هذه الأمراض: "الضَّعف، واليأس والقنوط، والبَطَر والفرح، والعجب والفخر، والظلم والبَغي، والجحود والكنود، والعَجَلة، والطَّيْش والسَّفه، والبُخل والشُّح والحِرص، والجَدل والمِراء، والشك والرِّيبة، والجهل والغَفْلة، واللَّدَد في الخصومة، والغرور والادِّعاء الكاذب، والهلع والجَزَع، والمنع والتمرُّد، والطُّغْيان وتجاوز الحدود، وحُب المال والافتتان بالدنيا".
أما طبيعة الغواية، وحقيقة عمل الشيطان، والباب الذي يفتح فيجيء منه الشرُّ كله، فهو أن يرى الإنسان عملَه القبيحَ حسنًا؛ ﴿ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [فاطر: 8].
هذا هو مفتاح الشرِّ كله؛ أن يُزَيِّن الشيطان للإنسان سوءَ عمله فيراه حسنًا، فهو يُزَيِّن له الشهوات، ويُحسن له المنكرات، ويُريه الباطلَ في صورة الحق.
أخي الحبيب، إنَّه أمرٌ مُخيف أن نتعامَلَ مع عدوٍّ يَملؤه الحقدُ والْحَسد والكراهية نحونا، يرانا ولا نراه، نَغفُل عنه ولا يَغفُل عنَّا، لا يرضى بأقل من النار مصيرًا لنا.
ولكن اعلم أنَّ كَيْد الشيطان لا يبدو خطيرًا وقويًّا، إلا لِمَن رَكَن إليه، واغترَّ بأسلحته وحباله، فتعامل معها واستأنَسَ بها، أمَّا مَن أدرَكَ عَدَاوته، وقَطَع ما بينه وبين الشيطان من حبال التواصُل، مُلتجِئًا إلى قَيُّوم السموات والأرض، فلنْ يكونَ للشيطان عليه سبيل.
أخي في الله، وَيْحَك، طرَدَ الله إبليس عن سمائه، وأخرجَه من جَنَّته، وأبعده من قُربه؛ لأنه تكبَّر عن السجود لأبيك آدمَ - عليه السلام - فعاداه وأبعده، ثم واليتَ عدوَّه ومِلْتَ إليه وصالحته؛ ﴿ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا ﴾ [الكهف: 50].
5 - لا تدوم على حال:
لقد خَلَق الله - تعالى - الحياة الدنيا على طبيعة اختلطتْ فيها اللذائذ بالآلام، والمحابُّ بالمكارِه، فهَيْهَات أنْ ترى فيها لذَّة لا يَشوبها ألَمٌ، أو صحة لا يُكَدِّرها سقمٌ، أو سرورًا لا يُنغصه حزن، أو راحة لا يُخالطها تعبٌ، أو اجتماعًا لا يَعقبه افتراق، أو أمانًا لا يَلحقه خوفٌ، إنْ أضحكتْ قليلاً، أبكتْ كثيرًا، وإنْ سرَّتْ يومًا، أساءَتْ دهرًا، وإنْ متَّعَتْ قليلاً، منعتْ طويلاً.
جُبِلَتْ عَلَى كَدْرٍ وَأَنْتَ تُرِيدُهَا *** صَفْوًا مِنَ الآلاَمِ وَالأَكْدَارِ
وَمُكَلِّفُ الأَيَّامِ ضِدَّ طِبَاعِهَا ***مُتَطَلِّبٌ فِي الْمَاءِ جَذْوَةَ نَارِ

واعلمْ أنَّ الإنسان وإنْ أوتِي ما أوتِي، مُعرَّض بين لحظة وأخرى لبَليَّة نازلة، أو نعمة زائلة، أو مصيبة موجِعة، أو منيَّة قاتلة.
أخي الحبيب، قلْ لي بربِّك، أين مَن كانوا يمشون في الأرض مرحًا؟ أين أصحاب القصور الحصينة، والأنساب الرصينة، والعقول الرزينة؟ قَبَضتْ عليهم يدُ المنايا، فنقلوا إلى أجداثٍ ما مُهِّدَتْ حين حُفِرتْ، ورَحَلوا بذنوب لا يَدرون هل غُفِرتْ أو بَقِيتْ؟
فالأيام دُوَلٌ؛ فيوم لك، ويومٌ عليك، فكلُّ شيء في هذه الحياة لا يثبت على حالٍ واحدة، فكثيرًا ما تتحول الأمور، فيُصبح الفقراء أغنياءَ، والأغنياء فقراءَ، ويُصبح الأصحاء مَرْضَى، والمرضَى أصِحَّاء، ويُصبح الطفل شابًّا، والشاب شيخًا.
إخواني في الله، إنَّ مَن نظَر إلى الدنيا بعين البصيرة، أيْقَنَ أن نعيمَها ابتلاءٌ، وحياتها عَناء، وعيشها نَكَدٌ، وصفوها كدرٌ، خدَّاعة مَكَّارة، بينما أصحابها منها في نعيم وسرور، إذ وَلَّتْ عنهم، صاروا كأنهم أضغاثُ أحلام.
لا تدوم أحوالُها، ولا يسلم من شرِّها نُزَّالُها، بينما أهلها في صفاء ورَخَاء، إذا هم منها في كدرٍ وبلاءٍ، وبينما هم في سرور وحبور، إذا هم منها في نكد وغرور، العيش فيها مذموم، وعِزُّها لا يدوم، وفناؤها مَحتوم، تُمَنِّي أصحابَها سرورًا، وتَعِدُهم غرورًا، حتى يأمُلون كثيرًا، ويبنون قصورًا، فتصبح قصورُهم قبورًا، وجَمعهم بورًا، وسَعْيهم هَبَاءً منثورًا، ودعاؤهم ثُبورًا.
أخي، وَيْحَك، كم غرَّتِ الدنيا من مُخلد إليها، وصرَعَتْ من مُكِبٍّ عليها، فلم تنعشْه من عَثرته، ولَم تُنقذه من صَرعته، ولَم تَشْفِه من ألَمِه، ولَم تُبْرئه من سَقمه.
فيا هذا، كيف أَمِنتَ هذه الحالة، وأنت صائرٌ إليها لا مَحَالة؟!أم كيف ضَيَّعتَ حياتك، وهي مَطِيَّتك إلى مَماتك؟ أم كيف تَهْنأ بالشهوات، وهي مَطيَّة الآفات؟ فكم ترتع بآخرتك دنياك، وتركب غَيَّك وهواك، أمَا تَذكر ما أمامك من شدَّة الحساب، وشرِّ المآب؟ أمَا تذكر حال من جَمَع وثَمَّر، ورَفَع البناء وزَخْرَفَ وعَمَّر؟ أما صارَ جَمعُهم بورًا، ومساكنهم قبورًا؟
فالبِدَارَ البِدَار، والحِذَارَ الحِذَار من الدنيا ومكايدها، وما نَصبتْ لك من مصايدها، وتَحلَّتْ لك من زِينتها، وأبرزتْ لك من شهواتها، وأخْفَتْ عنك من قَوَاتلها وهلكاتها.
فهل يحرص على الدنيا لبيبٌ، أو يُسَر بها أريبٌ، وهو على ثِقة من فنائها، وغير طامِع في بقائها؟ أو كيف تنام عينُ مَن يخشى البَيَات؟ وكيف تَسكن نفْسُ من توقَّع في جميع أموره المَمَات؟
وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذَّتها، ويتمتع به من بهجتها، مع صنوف عجائبها، وقوارع فجائعها، وكَثرة عذابه في مصائبها وفي طلبها، وما يُكابد من أَسْقامها وأوصابها وآلامِها؟
6 - سجن المؤمن وجنة الكافر:
إنَّ الدنيا سجنُ المؤمن؛ فهو يعلم أنها دارُ ابتلاء، يتمازَج فيها الخير بالشر، يُبتلَى فيها بالمصيبة؛ ليصبر عليها ولا يَضْجَر منها، ويُبتلى فيها بالنعمة؛ ليشكرَها فلا يَطغى ولا يَبطر بها، فهي عنده وسيلة لا غاية؛ وسيلة لِمَا بعدها، هنا الغَرْس، وهناك الحصاد، هنا الامتحان، وهناك النتيجة، هنا العمل، وهناك الجزاء؛ لذا تراه يجاهد فيها المعاصي والسيِّئات، ويستعلي على تيار الشهوات والملذَّات، ويصارع أمواجَ الفِتَن والمغْرِيَات، ويتطهَّر من دَنَس الموبقات والمنكرات، وينفض عن نفسه غُبارَ الغَفلات.
فهو في جهاد دائمٍ مع نفْسٍ أمَّارة بالسوء، وشيطان لحوح، وهوًى مُرْدٍ، ودنيا متزيِّنة، يردِّد مع القائل:
إِنِّي بُلِيتُ بِأَرْبَعٍ مَا سُلِّطُوا *** إلاَّ لِشِدَّةِ شِقْوَتِي وَعَنَائِي
إِبْلِيسُ وَالدُّنْيَا وَنَفْسِي وَالْهَوَى *** كَيْفَ الْخَلاَصُ وَكُلُّهُمْ أَعْدَائِي؟

أما غير المؤمن، فهو يريد الدنيا كما يهوى ويتمنَّى، ويكافح ويناضِلُ في فِجَاجها؛ ليُخضعَها لِمَا يشتهي ويُريد، فهو موقِنٌ في قَرارة نفسه أنَّ حياته هذه التي يُعيشها هي اليوم التي لا غدَ من ورائه، فهي حظُّه الأوحد من الحياة التي تفتَّحَتْ عيناه عليها، ومِن ثَمَّ يغامر جُهد استطاعته؛ ليجعل حظَّه منها سعادةً ورغدًا وهَناءً؛ لذا تراه يرتَع في الشهوات، ويغترف من الملذَّات، فهو غارِقٌ في آثامه، سارح في أوهامه، متخَبِّط في أضغاث أحلامه، رفَع شعار: ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 37].
فانطبقَ عليه وصْفُ الله - عز وجل - لأمثاله: ﴿ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ ﴾ [محمد: 12].
يردِّد دومًا:
إِنَّمَا الدُّنْيَا طَعَامٌ وَشَرَابٌ وَمَنَام
فَإِذَا فَاتَكَ هَذَا فَعَلَى الدُّنْيَا السَّلاَم
إخواني في الله، إنَّ هذه الدنيا لا تعطي حصادَها إلا لِمن يزرعون، ولا جناها إلا لِمن يغرسون، ولا ينال المرءُ فيها ما يحب إلا بصبره على ما يَكره، هذا شأْنُ حياتنا هذه القصيرة، فكيف بحياة الخلود؟!
أيريد الإنسان أن يحظى بنعيمها دون جُهد ولا ابتلاء، ودون أن يسعى لها سَعْيَها؟ كلاَّ والله، فهل يستوي الكسالى والعاملون، والصالحون والطالحون؟ من أجْل ذلك حُفَّتِ الجنة بالمكاره، ومُلِئ طريقُها بأشواك الابتلاء.
وخلاصة القول يُخبرك بها الإمام النووي - رحمه الله -:
"إنَّ كلَّ مؤمنٍ مسجون مَمنوع في الدنيا من الشهوات المحرَّمة والمكروهة، مُكَلَّف بفِعْل الطاعات الشاقَّة، فإذا ماتَ استراحَ من هذا، وانقلبَ إلى ما أعدَّ الله - تعالى - له من النعيم الدائم، والراحة الخالصة من النقصان، وأما الكافر فإنَّما له من ذلك ما حصَلَ في الدنيا مع قِلَّته وتكديره بالمنغصات، فإذا ماتَ صارَ إلى العذابِ الدائم، وشقاءِ الأبد".


شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الأربعاء، 26 ديسمبر 2012 ' الساعة  3:06 م


 
Toggle Footer