الأربعاء، 13 مارس 2013




د. محمد بن عبدالله بن إبراهيم السحيم
 
الخطبة الإولى


إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.



أما بعد، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ... ﴾ [النساء: 1] ﴿ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته...﴾ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا ﴾ [الأحزاب: 70].



أيها المؤمنون!

البنيان المرصوص والجسد الواحد ذو الأعضاء المتعاطفة تصوير لحال المجتمع المسلم الذي أراده الله وشرعه. ومن شأن ذلك البنيان والجسد حصول التصدع، والنفرة بين بعض أعضائه، وحصول التقاطع في أحايين قد تقلُّ أو تكثر حسب ابتعادهم عن منهج الألفة والرحمة مما شرعه الله - تعالى -، واتباعهم لأهواء النفوس، وضعفها، ونزغات الشيطان وحزبه. وبعد ذلك تبقى مهمة ترميم البناء ورأب صدعه وإصلاح ذات البين وتأليف أعضاء الجسد المتشاكسين هي الواجبَ المحتمَ، والوسيلةَ التي ترتقي بالمجتمع للغاية المرادةِ شرعاً، والوظيفةَ الساميةَ التي لا يُكرَمُ بها إلا الأخيار؛ فبها تُسَلُّ السخائم، وتصفو القلوب، وتُخمد نيران الفتن بين الأفراد والجماعات والدول؛ فكم من بيت شارف منهاراً فأُنقِذ بمصلح، وكم من قطيعة قُطِعت بمصلح، وكم من نفس عَتُقَت بمصلح، وكم من فتنة وئدت بمصلح، وكم من دماء حُقنت بمصلح، وكم من حق أُرجع بمصلح، وكم من حرب قد دقت طبولها فوضِعت أوزارُها بمصلح. وبذا غدا إصلاح ذات البين عماداً لا يرتفع بناء المجتمع إلا به، ولبنةَ تأسيس لا يقوم إلا عليها، روى أحمد وابن أبي شيبة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قَالَ: "كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِتَابًا بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ: أَنْ يَعْقِلُوا مَعَاقِلَهُمْ، وَأَنْ يَفْدُوا عَانيَِهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَالْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ"، وروى البيهقي في الشعب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لَمَّا دَخَلَ الشَّامَ حَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، وَأَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِينَا خَطِيبًا كَقِيَامِي فِيكُمْ فَأَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَصَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ...".


أيها المؤمنون!
إن عملاً بهذه المثابة لجديرٌ أن يكون من خير الأعمال وأبرها، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما عَمِلَ ابنُ آدم شيئاً أفضلَ من الصلاة، وصلاحِ ذات البين، وخلقٍ حسن" رواه البخاري في تاريخه وحسنه السيوطي والألباني. وأجر العمل بمنزلته عند الله؛ ولإصلاح ذات البين من ذلك الخَلاق العريض، يقول الله - تعالى -: ﴿ لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾. و تنكير الأجر دلالة كثرةٍ وتعظيمٍ وإغراءٍ وإن كان إصلاحاً بين أطفال. ولا غرو في ذلك؛ فإصلاح ذات البين أفضل الصدقات، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين" رواه البزار والطبراني وحسنه المنذري والألباني. وتلك الصدقة لا يضاهيها تطوعٌ بصلاة أو صيام أو صدقة مالية مهما بلغت، يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟" قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: "إِصْلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ. وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ الْحَالِقَةُ - أي: الخَصْلة الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ تَحْلِق الدِّين، أي: تُهْلِكه وتَستأصِله كَمَا يَسْتَأصِل المُوسَى الشَّعَرَ -" رواه أبو داود وصححه البزار. وظهور الإصلاح في المجتمع أَمَنَةٌ له من العذاب، يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [هود: 117]، وحين أمطرت سماء العراق عام الجماعة سنة (41)هـ بالدم العبيط وارتعب الناس وظنوا القيامة قامت خطب فيهم عمرو بن العاص - رضي الله عنه - فقال: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَصْلِحُوا مَا بَيْنَكُم، وَلاَ يَضُرُّكُم لَوِ اصْطَدَمَ هَذَانِ الجَبَلاَنِ ". وإصلاح ذات البين من لوازم الإيمان ومقتضياته، يقول الله - تعالى -: ﴿ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [الأنفال: 1]، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هَذَا تحريجٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ: أَنْ يَتَّقُوا اللَّهَ، وَأَنْ يصلحوا ذات بينهم". وذلك الإصلاح من آثار الأخوة وحقوقها اللازمة، يقول الله – تعالى -: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحجرات: 10].

معشر المؤمنين!
ولعظم فضيلة إصلاح ذات البين وحسن أثره وعاقبته أبيح لأجله بعض الحرام كالكذب، والنميمة، وسؤال الناس المال، وتأخير الصلاة. يقول رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذِي يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا" رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري، تقول أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط - رضي الله عنها -: "وَلَمْ أَسْمَعْ يُرَخَّصُ فِي شَيْءٍ مِمَّا يَقُولُ النَّاسُ كَذِبٌ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: الْحَرْبُ، وَالْإِصْلَاحُ بَيْنَ النَّاسِ، وَحَدِيثُ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَحَدِيثُ الْمَرْأَةِ زَوْجَهَا" رواه مسلم، قال ابن بابويه: "إن الله أحب الكذب في الإصلاح، وأبغض الصدق في الإفساد". ويقول رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لَا تَحِلُّ إِلَّا لِأَحَدِ ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً؛ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا، ثُمَّ يُمْسِكُ..." رواه مسلم. وقد خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - بنفر من أصحابه للإصلاح بين أناس من بني عمرو بن عوف حتى صلى الناس عنه كما روى البخاري في صحيحه. قال الأوزاعي: "ما خطوة أحبُّ إلى الله - عز وجل - من خطوة إصلاح ذات البين". وقال محمد بن كعب القرظي: "من أصلح بين قوم فهو كالمجاهد في سبيل الله". وقد باشر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإصلاح بنفسه حتى بين المماليك، فقد روى ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعبَّاسٍ: "يَا عَبَّاسُ، أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا"، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَوْ رَاجَعْتِهِ"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: "إِنَّمَا أَنَا أَشْفَعُ"، قَالَتْ: لاَ حَاجَةَ لِي فِيهِ. رواه البخاري. فالخير كامن في الصلح ﴿ وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ﴾ [النساء: 128] إن وضع موضعه المبنيَّ على العلم والعدل، يقول الله - تعالى -: ﴿فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9] ويقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا" رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. فإن ندّ العدل أو العلم عن الصلح؛ فلا خير فيه، بل هو فساد وإفساد.

بارك الله...
الخطبة الثانية

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.



وبعد، فاعلموا أن أحسن الحديث...

عباد الله!
إن القيام بهذه الشعيرة العظيمة والمهمة النبوية سبب للفوز برضا الله؛ مما يكون سبباً لوضع القبول لصاحبها في الناس. فقد سُئل الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - عن سبب قبول الناس له، فقال: ما أرجوه من فضل الله عليَّ: أن وهبني صدراً سليماً على المسلمين، ومسارعةً بالإصلاح بين كل متخاصمين منهم مذ علمي بخصومتهم. والتشرّفُ بالسير في ركاب المصلحين يستدعي ممن رغب في الانضمام إليهم إلماماً بآداب الإصلاح، ومن أبرز تلك الآداب: صدق الإخلاص وابتغاء ثوابِ الله بقطعِ دابر الشحناء بين المؤمنين، وتلك الغاية السامقة لا تتوافق وجعلَ الإصلاحِ مصدرَ تكسب مالي وبناءِ علاقات وتسنّمِ جاه وبهرجِ إعلام. فلعمر الله! لَذلكم الصدقُ جادةُ التوفيق المنشود: ﴿ إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ [النساء: 35].

ومن الآداب: التوكلُ على الله، وحسنُ الظن به، ولزومُ سؤاله التوفيقَ، والفألُ بحل القضية، والاضطلاعُ بالحلم والأناةِ وسعةِ النفَس والترويِّ وحسنِ التثبت واحتمالِ الأذى وعدمِ اليأس. ومنها: التصورُ التام للقضية، والقدرةُ على الدخول فيها بالإصلاح، والاستعانةُ بالمعين الراشد، وإعطاءُ الإصلاح الوقتَ الكافي ليخف احتقان النفوس وتُعْمَلَ العقول، والحكمةُ في التعامل مع أطراف النزاع: بالتودد إليهم، والرفع من قيمتهم، والانفراد بكل واحد منهم، وحسن الإصغاء إليه، وعدم مقاطعة حديثه، وتكرار الجلوس معه، والمحافظة على أسراره، وعدم الوقيعة في خصمه، وتذكيره بحق الأخوة بينهما، والعاقبةِ الحميدة للصلح. فإن حصل له مراده - وذلك هو الغالب -، وإلا فقد أدى ما لزمه، ولا تثريب عليه.

وبعد - معشر الإخوان -، فإن من مستحسن الرأي وسداد البصيرة الجِدَّ في إنشاء ورعاية مراكز إصلاح ذات البين في دوائر المجتمع كبيرةً كانت أو صغيرة: في المناطق، والمحافظات، والمراكز، والأحياء، والقطاعات الحكومية والأهلية، ودور التعليم، والعوائل، بل والمنازل؛ لتحفظ البناء وتقويَ دعائمه، فليس إنشاء قسم لصيانة المعدات فيها بأولى من صيانة ألفة القائمين عليها والمستفيدين منها.

اللهم....




المصدر : شبكة الألوكة

 تم النشر يوم  الأربعاء، 13 مارس 2013 ' الساعة  9:10 ص


 
Toggle Footer