السبت، 30 مارس 2013

  وتبتل إليه تبتيلا

عبده قايد الذريبي

في ظل زحمة المدنية الهوجاء، والمادية العرجاء، تزاحَمَ الناسُ على الدنيا، وتنافسوا فيها، وتسابقوا في جمعها، وغفلوا عن الغاية السامية التي خُلِقوا لأجلها، وهي عبادة رب الأرض والسماء، الذي أخبرَنا عن هذه الحقيقة، فقال: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].

وقد حث اللهُ نبيَّه محمدًا - صلى الله عليه وسلم - وكلَّ مؤمن من بعده - أن يذكره سبحانه، وأن ينقطعَ إليه انقطاعًا تامًّا، وألا يشغله غيرُه عنه، فقال مخاطبًا إياه: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8].

قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي: أكثِرْ من ذِكره، وانقطع إليه، وتفرَّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]؛ أي: إذا فرغت من أشغالك، فانصَبْ في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال..، وقال ابن عباس: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8]؛ أي: أخلِصْ له العبادة..، وقال الحسن: اجتهد وبَتِّل إليه نفسك"[1].

وقال ابن سعدي - رحمه الله -: "أي: انقطع إلى الله تعالى؛ فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرِّب إليه ويُدْنِي من رضاه"[2].

وقال ابن جرير: "يقول - تعالى ذكره -: ﴿ وَاذْكُرِ يا محمد، ﴿ اسْمَ رَبِّكَ فادعُه به، ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً يقول: وانقطع إليه انقطاعًا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر، ومنه قيل لأمِّ عيسى ابن مريم: البتول؛ لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل"[3].

معنى التبتل:
والتبتل هو: الانقطاع، وهو هنا انقطاعٌ مجازي؛ أي: تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس، وانحاز إلى جانب الله؛ فعُدِّي بـ: "إلى" الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها
منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ
والتبتيل: مصدر (بتَّل) المشدَّد، الذي هو فعل متعدٍّ، مثل التقطيع، جيء بهذا المصدر عوضًا عن التبتل؛ للإشارة إلى أن حصول التبتل - أي: الانقطاع - يقتضي التبتيل؛ أي: القطع.

يقال: بتلت الشيء؛ أي: قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بَتْلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي: بائنة منقطعة عن صاحبها؛ أي: قَطَع ملكه عنها بالكلية، ومنه: مريم البتول؛ لانقطاعها إلى الله تعالى، ويقال للراهب: متبتِّل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها
منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ [4]

والبتول من النِّساء: المنقطعة عن الرِّجال، لا أربَ لها فيهم، وبها سمِّيت مريم البتول.

وقيل لفاطمة - رضي الله عنها -: البتول؛ لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الأمَّة عفافًا وفضلاً ودينًا وحسبًا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا لله - عز وجل.

وامرأة مبتلة الخَلق؛ أي: منقطعة الخَلق عن النساء، لها عليهن فضلٌ[5].

ولما كان التبتيل قائمًا بالمتبتل، تعيَّن أن تبتيلَه قطعُه نفسَه عن غيرِ مَن تبتل هو إليه؛ فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى؛ فالجمع بين تبتل وتبتيلاً مشيرٌ إلى إراضة النفس على ذلك التبتل، وفيه مع ذلك وفاءٌ بِرَعْي الفواصل التي قبله.

والمراد بالانقطاع المأمور به: انقطاع خاص، وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين؛ ولذلك قيل: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ﴾؛ أي: إلى الله؛ فكل عمل يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعمال الحياة، فهو لدين الله؛ فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله، وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم؛ مثل: الطِّيب، وتزوُّج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: ((حبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطِّيب)).

وخلاصة المعنى:
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مأمور ألا تخلو أوقاتُه عن إقبال على عبادة الله ومراقبته، والانقطاع للدعوة لدين الحق، وإذ قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - من قبلُ غيرَ غافل عن هذا الانقطاع بإرشادٍ من الله؛ كما ألهمه التحنُّث في غار حراء، ثم بما أفاضه عليه من الوحي والرسالة، فالأمر في قوله: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ ﴾ مرادٌ به الدوام على ذلك؛ فإنه قد كان يذكر الله فيما قبل، فإن في سورة القلم - وقد نزلت قبل المزمل -: ﴿ وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ﴾ [القلم: 51]، على أن القرآنَ الذي أنزل أولاً أكثرُه إرشاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - إلى طرائق دعوة الرسالة؛ فلذلك كان غالب ما في هذه السور الأُوَل منه مقتصرًا على سَنِّ التكاليف الخاصة بالرسول - صلى الله عليه وسلم"[6].

والأصل أن يقال: "وتبتل إليه تبتُّلاً"، أو يقال: "بتِّل نفسك إليه تبتيلاً"، لكنه - تعالى - لم يذكرهما واختار هذه العبارة الدقيقة، وهي أن المقصود بالذات إنما هو التبتل، فأما التبتيل فهو تصرف، والمشتغل بالتصرف لا يكون متبتلاً إلى الله؛ لأن المشتغل بغير الله لا يكون منقطعًا إلى الله، إلا أنه لا بد أولاً من التبتيل؛ حتى يحصل التبتلُ؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ﴾ [العنكبوت: 69]، فذَكَر التبتل أولاً إشعارًا بأنه المقصود بالذات، وذكر التبتيل ثانيًا إشعارًا بأنه لا بد منه، ولكنه مقصودٌ بالغرض[7].

لفتة تربوية:
وفي هذه الآية لفتة "تربوية" مهمة، نأخذها من المصدرين: المحذوف: "تَبَتُّل"، والمذكور: "تَبتيل".

يدل المصدر الأول على التدرج والتكلف والمجاهدة؛ إن جملة: "تَبَتَّلْ إِلَى اللهِ تَبَتُّلاً" تدعو المؤمن - والمؤمنة - إلى مجاهدة النفس، وإجبارها على التبتُّل، وإلزامها به، وفي هذه المجاهدة من التكلف والعزم وقوة الإرادة ما فيه؛ لأن النفس تكره الالتزام والانضباط، وتحب التفلُّت والترخُّص، وإذا تركها المسلمُ على هواها، فإنها تتركُ الأمر وتتخلى عنه؛ ولذلك لا بد من أَخْذِها بالشدة؛ حتى تلتزمَ وتستقيم.

ويدل المصدر الثاني: "تَبْتِيل" على التكثير، فمن بَتَّلَ نفسه إلى الله تبتيلاً، فقد أكثر من الانقطاع إلى الله[8].

التبتل الحقيقي:
والتبتل الحقيقي يجمع أمرين؛ كما قال ابن القيم - رحمه الله -: التبتل يجمع أمرين: اتصالاً وانفصالاً، لا يصحُّ إلا بهما.

فالانفصال: انقطاعُ قلبه عن حظوظ النفس المزاحمةِ لمراد الربِّ منه، وعن التفات قلبه إلى ما سوى الله؛ خوفًا منه، أو رغبة فيه، أو مبالاة به، أو فكرًا فيه، بحيث يُشغَل قلبُه عن الله.

والاتصال: لا يصحُّ إلا بعد هذا الانفصال.

وهو اتصال القلب بالله، وإقباله عليه، وإقامة وجهه له، حبًّا وخوفًا ورجاءً، وإنابة وتوكُّلاً[9].

حاجتنا إلى التبتل:
ونحن اليوم في حاجة ماسة إلى التبتل؛ وذلك بالانقطاع عن الخَلق، والاتصال بالخالق، قال ابن العربي: "وأما اليوم وقد مرجت عهودُ الناس، وخفَّت أماناتهم، واستولى الحرامُ على الحطام، فالعزلة خير من الخلطة، والعز به أفضل من التأهل"، يقول هذا الكلام في زمانه، فكيف لو رأى زماننا، فما عساه أن يقول؟! وقال أيضًا: "عند فساد الزمان يكون خيرُ مال المسلم غنمًا يتبع بها شعف الجبال ومواقع القَطْر، يفرُّ بدينه من الفتن"[10].

خطوات التبتل:
للتبتل أربع خطوات:
1 - قطع رغبة النفس في المدح؛ فلا يحب المدح، أو يستوي عنده المدح وعدمه.

2 - قطع رغبة النفس إلى الشهرة ورؤية الناس؛ فالرياء لا يجد لقلبه طريقًا.

3 - قطع رغبة النفس إلى الإمارة والرئاسة، سواء في الدين أو الدنيا، لكنه دائمًا يدعو ربه أن يجعله للمتقين إمامًا.

4 - قطع رغبة النفس إلى العلو في الأرض، وتبوء معالي المراكز والسلطان للعلو فيها، والحصول على طاعة الناس، وقهرهم، والسيطرة عليهم[11].

نساء متبتلات:
مريم البتول انقطعت إلى الله؛ فآثرها على نساء العالمين، وأجرى لها من الكرامة ما أجرى؛ ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا ﴾ [آل عمران: 37].

وهذه آسية انقطعت إلى الله، وآثرتْه على الملك والجاه، فآثرها اللهُ بالقرب منه في جنته ودار علاه: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11].

التبتل لا يعني غفلة الإنسان عما يحل بإخوانه من مصائب:
وتبتل العبد لربه لا يعني مطلقًا غفلتَه عما يدور حوله، أو عما يحل بإخوانه من مصائب؛ قال صاحب القواعد الحسان، ص (115): "ومثل هذه العبادة تُلازِم الإنسانَ في كل زمان ومكان لا تنفك عنه؛ فهو بين الناس بجسمه، ولكن رُوحه تطوف حول العرش، يكلمهم بمحياه ولسانه، لكن مشاهدة عظمة الله وجلاله في سويداء جنانه، يفرح مع الناس لفرحهم، لكن قلبه قد مُلئ وجلاً وخوفًا وخشية من ربه، يحزن مع الناس لحزنهم، ولكن فؤاده قد مُلِئ أنسًا ورضًا وحبورًا بما قضى اللهُ وقدر، إنه ذلك الحاضر الغائب، الموجود المفقود، بين الهياكل والصور، والأجسام والغِيَر".

صور التبتل المشروع:
التبتل: منه ما هو مشروع، ومنه ما هو ممنوع؛ فالمشروع هو ما جاءت نصوصُ الكتاب والسنَّة بالأمر به، والحث عليه، والترغيب فيه، ولذلك صور عدة، منها:

أولاً: تحقيق التوحيد، ونفي الشريك: قال - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ﴾  [النحل: 36]؛ أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واجتنبوا الطاغوت بجميع صوره وأشكاله.

قال ابن عاشور: "ومن أكبر التبتل إلى الله: الانقطاعُ عن الإشراك، وهو معنى الحَنِيفيَّة؛ ولذلك عقَّب قوله: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ بقوله: ﴿ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ ﴾"[12].

وقال ابن القيم - رحمه الله -: "لا يوصف بأنه عابدُ الله وعبدُه المستقيم على عبادته إلا مَن انقطع إليه بكلِّيته، وتبتَّل إليه تبتيلاً لم يلتفت إلى غيره، لم يشرك به أحدًا في عبادته، وأنه وإن عبده وأشرك به غيره، فليس عابدًا لله ولا عبدًا له"[13].

ثانيًا: الإخلاص في العبادة: قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ ﴾ [البينة: 5]؛ أي: قاصدين بجميع عباداتهم الظاهرة والباطنة وَجْهَ الله، وطلب الزُّلْفى لديه، ﴿ حُنَفَاءَ ﴾؛ أي: معرضين [مائلين] عن سائر الأديان المخالفة لدين التوحيد[14].

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله - تعالى -: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ قال: أخلِصْ له إخلاصًا[15].

ثالثًا: الإخلاص في الدعاء: قال مجاهد - رحمه الله - في قوله - تعالى -: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8] قال: أخلِصْ إليه المسألةَ والدعاء[16].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنهما -: ((إذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ باللهِ))[17].

وقال الشاعر:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدمَ حاجةً
وسلِ الذي أبوابُه لا تُحجَبُ
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَه
وبُنيُّ آدمَ حينَ يُسألُ يغضَبُ

فالله سميع قريب مجيب، قال لنبيِّه: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186].

رابعًا: الإخلاص في الدعوة: قال قتادة - رضي الله عنه - في قوله - تعالى -: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ قال: أخلص له العبادة والدعوة[18].

فالدعوة تكون خالصة لوجه الله؛ قال - تعالى -: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ﴾ [يوسف: 108]، وقال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾ [فصلت: 33].

خامسًا: تفرغ القلب للعبادة: قال ابن وهب - رحمه الله - في قوله - تعالى -: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ قال: تفرَّغ لعبادته، فحبذا التبتل إلى الله، وقرأ قول الله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]، قال: إذا فرغت من الجهاد، فانصَبْ في عبادة الله، وإلى ربِّك فارغَبْ[19].

قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأما الرغبة في الله، وإرادةُ وجهه، والشوقُ إلى لقائه، فهي رأس مال العبد، وملاكُ أمره، وقوامُ حياته الطيبة، وأصلُ سعادته وفلاحه، ونعيمه وقرة عينه، ولذلك خُلِق، وبه أُمِرَ، وبذلك أُرسلت الرسل، وأُنزلت الكتب، ولا صلاح للقلب ولا نعيم إلا بأن تكون رغبتُه إلى الله - عز وجل - وحده، فيكون هو وحده مرغوبَه ومطلوبه ومراده؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ [الشرح: 7، 8]"[20].

صور التبتل الممنوع:
للتبتل الممنوع صور عدة، منها:
أولاً: سلوك مسلك النصارى وبعض أهل البدع الضالة في ترك النكاح والترهب في الصوامع:
فهذا تبتل ممنوع جاءت الشريعةُ الإسلامية بالنهي عنه، والتحذير منه؛ قال - تعالى -: ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ﴾ [الحديد: 27].

فلا رهبانيةَ في الإسلام؛ ولذلك فقد رد النبي - صلى الله عليه وسلم - على عثمان التبتل؛ كما جاء في حديث سعد بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه - قال: "رد رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذِن له، لاختصينا"؛ رواه البخاري ومسلم.

والرغبة عن الزواج ليست من هدي الإسلام، ولا من سنة سيد الأنام محمد - عليه الصلاة والسلام - فعن أنس بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أخبِروا كأنهم تقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا، فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطِر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغِب عن سنتي، فليس مِني))؛ رواه البخاري ومسلم.

ففي هذا الحديث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن منع النفس من تناول المباحات؛ كترك النوم، أو ترك الجماع، أو تناول الأكل الطيب الحلال - ليس من سنته - عليه الصلاة والسلام - وقد رُوي في الأثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله، إني إذا أصبت اللحمَ، انتشرتُ للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليَّ اللحم، فأنزل الله:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّبًا ﴾ [المائدة: 87، 88] [21].

قال ابن العربي معلقًا على هذا الأثر: "ظن أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المطلوبَ منهم طريق مَن قَبْلهم مِن رفض الطعام والشراب والنساء، وقد قال الله - سبحانه -: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المائدة: 48]، فكانت شريعةُ مَن قبلنا بالرهبانية، وشريعتنا بالسمحة الحنيفية، وفي الصحيح: "أن عثمان بن مظعون نهاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن التبتل، ولو أَذِن له، لاختصينا"، والذي يوجب في ذلك العلم، ويقطع العذر، ويوضح الأمر - أن الله - سبحانه - قال لنبيِّه: ﴿ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ﴾ [المزمل: 8]، فبيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - التبتل بفعله، وشرح أنه امتثال الأمر، واجتناب النهي، وليس بترك المباحات، "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ اللحمَ إذا وجده، ويلبَس الثياب تبتاع بعشرين جملاً، ويُكثِر من الوطء، ويصبر إذا عدم ذلك"، ومن رغِب عن سنته لسنة عيسى، فليس منه"[22].

فالزواج آية من آيات الله في الكون؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الروم: 21].

وهو سنة من سنن الأنبياء والمرسلين؛ قال - تعالى - في كتابه العزيز: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ﴾ [الرعد: 38]، وقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((يا معشر الشباب، مَن استطاع منكم الباءةَ، فليتزوَّجْ))؛ رواه البخاري ومسلم.

والمراد به في الآية الكريمة: الانقطاع إلى عبادة الله - تعالى - دون ترك النكاح[23].

ثانيًا: تقديم المستحبات على الواجبات:
كما جاء في حديث أبي جحيفة وهب بن عبدالله، أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آخى بين سَلْمان وأبي الدرداء - رضي الله عنهما جميعًا - آخى بينهما؛ أي عقد بينهما عقد أخوة؛ وذلك أن المهاجرين حين قدموا المدينة آخى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين الأنصار، الذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم، فكان المهاجرون في هذا العقد للأنصار بمنزلة الإخوة، حتى إنهم كانوا يتوارثون بهذا العقد، حتى أنزل الله - عز وجل -: ﴿ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ﴾ [الأنفال: 75].

فجاء سَلْمان ذات يوم ودخل على دار أخيه أبي الدرداء - رضي الله عنه - فوجد امرأته أم الدرداء متبذلة، يعني: ليست عليها ثياب المرأة ذات الزوج، بل عليها ثياب ليست جميلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: إن أخاك أبا الدرداء ليس له شيءٌ من الدنيا، يعني أنه مُعرِض عن الدنيا، وعن الأهل، وعن الأكل، وعن كل شيء.

ثم إن أبا الدرداء لما جاء صنع لسَلْمان طعامًا، فقدَّمه إليه وقال: كُلْ، فإني صائم، فقال له: كُلْ وأفطر ولا تصُمْ؛ لأنه عَلِم من حاله بواسطة كلام زوجته أنه يصوم دائمًا، وأنه معرض عن الدنيا وعن الأكل وغيره، فأكل ثم نام، فقام ليصلي، فقال له سلمان: نَم، فنام، ثم قام ليصلي، فقال: نَم، ولما كان آخر الليل، قام سلمان - رضي الله عنه - وصلَّيَا جميعًا.

ثم قال له سلمان: "إن لنفسك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا، وإن لربك عليك حقًّا؛ فأعطِ كلَّ ذي حق حقه"، وهذا القول الذي قاله سلمان هو القول الذي قاله النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - لعبدالله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما، والحديث رواه البخاري.

وكذلك فقد نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - الزوجة أن تصوم تطوعًا وزوجُها حاضرٌ إلا بإذنه؛ لأن حق الزوج واجب عليها، والصوم نافلة.

قال بعض العلماء: "من شغله الفرض عن النفل، فهو معذور، ومن شغله النفل عن الفرض، فهو مغرور".

وقال أبو سليمان الداراني: "كل من كان في شيء من التطوع يلذ به، فجاء وقت فريضة، فلم يقطع وقتها لذة التطوع، فهو في تطوعه مخدوع"[24].

ثالثًا: التشديد على النفس، وإيقاعها في العنت والمشقة والسآمة والملل:
فقد دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المسجد وحبلٌ ممدود بين ساريتين، فقال: ((ما هذا؟))، قالوا: لزينب تصلِّي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: ((حُلُّوه، ليصلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا كسل أو فتر، قعد))، وفي حديث زهير: ((فليقعد))؛ رواه مسلم.

قال ابن بطال: ".. يكره التشديد في العبادة؛ خشية الفتور وخوف الملل، ألا ترى قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((خيرُ العمل ما دام عليه صاحبه وإن قل))؟ وقد قال - تعالى -: ﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ﴾ [البقرة: 286]، وقال: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، فكَرِه - صلى الله عليه وسلم - الإفراطَ في العبادة؛ لئلا ينقطع عنها المرءُ"[25].

وجاء في حديث عائشة - رضي الله عنها - قالت: كانت عندي امرأة من بني أسد، فدخل عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((من هذه؟))، قلت: فلانة، لا تنام بالليل، فذُكر من صلاتها، فقال: ((مه، عليكم ما تطيقون من الأعمال، فإن الله لا يمل حتى تملوا))؛ رواه البخاري.

قال ابن حجر: "فيه الحثُّ على الاقتصاد في العبادة، والنهي عن التعمق فيها…، والأمر بالإقبال عليها بنشاط"[26].

رابعًا: التعبد بما لم يأذن به الله:
فذلك مما نهى الشرعُ عنه؛ فقد جاء في حديث ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: بينما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطب إذا هو برجل قائم، فسأل عنه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقومَ في الشمس ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي: ((مُرُوه فليتكلم، وليستظلَّ، وليقعد، وليتم صومه))؛ رواه البخاري.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.



[1] تفسير القرآن العظيم، ابن كثير (8/ 266) بتصرف.
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (893).
[3] جامع البيان في تأويل آي القرآن (23/ 687).
[4] انظر: التحرير والتنوير (29/ 265) والجامع لأحكام القرآن، للقرطبي (19/ 44) ومفاتيح الغيب أو التفسير الكبير، للرازي (30/ 687) واللباب في علوم الكتاب (19/ 467).
[5] لسان العرب (11/ 43)، تاج العروس من جواهر القاموس (28/ 52).
[6] التحرير والتنوير، (29/ 265 - 266).
[7] مفاتيح الغيب، للرازي (30/ 687).
[8] مجلة الفرقان.
[9] مدارج السالكين (2/ 32).
[10] أحكام القرآن (4/ 332).
[11] من مقال بعنوان: "التبتل لله" خالد رُوشه.
[12] التحرير والتنوير (29/ 266).
[13] بدائع الفوائد (1/ 137).
[14] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، ص (931).
[15] جامع البيان في تأويل آي القرآن؛ للطبري (23/ 688).
[16] جامع البيان في تأويل آي القرآن؛ للطبري (23/ 688).
[17] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح، وصححه الألباني.
[18] جامع البيان في تأويل آي القرآن؛ للطبري (23/ 688).
[19] جامع البيان في تأويل آي القرآن؛ الطبري (23/ 689).
[20] روضة المحبين: (405).
[21] رواه الترمذي، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه بعضهم من غير حديث عثمان بن سعد مرسلاً، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء، عن عكرمة "مرسلاً"، وصححه الألباني.
[22] أحكام القرآن (2/ 144).
[23] اللباب في علوم الكتاب (19/ 467).
[24] حلية الأولياء (9/ 269).
[25] شرح صحيح البخاري؛ لابن بطال (3/ 144 - 145).
[26] فتح الباري (3/ 37).


شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  السبت، 30 مارس 2013 ' الساعة  8:59 ص


 
Toggle Footer