الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله العليم الحكيم؛ أتقن ما خلق، وأحكم ما شرع؛ فكان خبره صدقا، وكان حكمه عدلا ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ ﴾ [الأنعام: 115] نحمده على توفيقه وهدايته، ونشكره على كفايته ورعايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ إذا حكم الناس بشرعه سبحانه اهتدوا وأمنوا، وإذا حكموا بشرع غيره خافوا وضلوا، ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [الأنبياء: 22] وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ خاطبه ربه - سبحانه - فقال له: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ المُتَّقِينَ ﴾ [الجاثية: 18-19] فامتثل أمر ربه، واتبع شريعته، ودعا إليها، وجاهد الناس عليها حتى توفاه الله تعالى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا
صالحًا تجدوه، واحذروا المال الحرام فإنه وبال على صاحبه، وسحت يعذب به في
آخرته، وكل جسد نبت من سحت فالنار أولى به ﴿ وَلَا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ
وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].
أيها الناس:
استخلف الله تعالى البشر في الأرض فسلمهم
قيادتها، وسخر لهم جميع مخلوقاتها؛ فحرثوا الأرض، ودكوا الجبل، وقطعوا
الصخر، ومهدوا الوعر، وبلغوا قعر البحر، سخروا الحيوان واستخدموه، وبلغوا
الطير في السماء فأنزلوه، وهابهم الوحش ولم يهابوه، ولم يكن على الإنسان في
الأرض خوف إلا من الإنسان؛ ولذا شرع الله تعالى الشرائع لتحفظ الحقوق،
وتهذب النفوس، وتقوم السلوك، وتحقق الأمن، فيعلم كل واحد من الناس ما له
وما عليه، فلا يفرط في حقه، ولا يعتدي على غيره، وإذا حُكم الناس بشرع الله
تعالى، تحقق لهم الأمن الكامل، والرزق الوافر، وينتقص من أمنهم ورزقهم
بقدر ما أخلوا به من شرعه - سبحانه وتعالى - وبرهان ذلك أن المسيح ابن
مريم - عليه السلام - حين يحكم في آخر الزمان بشرع الله تعالى يأمن الناس
ويرزقون، وتعم الخيرات والبركات أرجاء الأرض، حتى غبط النبي - صلى الله
عليه وسلم - من يعيش في ذلك الزمن فقال: "طوبى لعيش بعد المسيح".
إن الخوف ينشأ عن تعطيل الشريعة كلها أو
بعضها، وإذا ضعُف الخوف من الله تعالى في قلب عبد، اجترأ على الظلم
والإفساد، فإذا لم يُردع بالعقوبة فإنه يعتدي على غيره، ويظلم الناس، ويأكل
الحقوق.
والتعامل بالرشوة باب من الفساد عريض،
وداء من الشر وبيل، يجر على الفرد والجماعة ويلات كثيرة؛ فالرشوة تفسد
الديانة، وتقضي على الأمانة، وتنشر الخيانة، وتعلي أسافل الرجال، وتحط
كرامهم.
لا بقاء للأمن والرزق في دولة أو أمة
تنتشر فيها الرشوة، بل الخوف والفقر والجوع؛ فإن الفقر عدو الاستقرار، وإن
الجوع فتيل الفوضى، وإنما ينتشر الفقر بانتشار الرشوة؛ لأن المرتشين يحبسون
مصالح الناس وحقوقهم حتى يرشوهم، فيزداد ثراء المرتشين، ومعه تتسع دائرة
الفقر في الناس.
وإذا رأى الناجحون والنابهون أن مصالحهم
تتعطل بسبب إجرام المرتشين، تركوا بلادهم إلى بلاد أخرى يعملون فيها تكون
الرشوة فيها أقل، فيستثمرون أموالهم فيها، وقد هاجر كثير من الأذكياء
والناجحين إلى البلاد الغربية؛ لأنهم في بلدانهم لم يوضعوا في المكان
اللائق بهم، ولم يمكنوا من مزاولة أعمالهم إلا بشركاء نافذين، أو رشاوى
عظيمة، فانحطت بلاد الرشوة، فلم يبق فيها إلا اللصوص المرتشون والمظلومون
المقهورون، فتسحقهم الرشوة؛ حتى تهيئهم للانتقام والثورة، وليس يخفى على
لبيب ما وقع ويقع في الدول العربية من ثورات واضطرابات بلغ الناس فيها حد
اليأس من الإصلاح، وفشا الظلم فيها فشوًّا كبيرًا، وانتشرت فيها الرشوة
انتشار النار في الهشيم، حتى أحرقت مقدرات الناس، وقضت على مكتسباتهم، وصار
عامة الناس يكتسبون وكسبهم لغيرهم بما يفرضه الأقوياء عليهم من ضرائب
جائرة، ومكوس ظالمة، وبما يمنعونهم من حقوقهم إلا برشاوى يبذلونها لمن
اتخموا بأكل السحت.
إن الرشوة تزرع الضغينة والبغضاء في قلوب
الناس، فيحقد الضعفاء على الأقوياء، والفقراء على الأغنياء، وينقسم المجتمع
إلى طبقتين متناحرتين، فيرحل الأمن والاستقرار، ويحل الخوف والاضطراب.
وإذا ارتقت الرشوة في هرم دولة من الدول،
فصار أكابرها يرتشون، نزلت أوساخهم وأقذارهم على عامة الناس، فلوثت المجتمع
بأسره، وأفسدت ذمم الناس كلهم، وصار لا يتورع عن الرشوة إلا من يردعه
دينه، أو تمنعه مُروءته، ولقد علم الناس وسمعوا عن دول وصلت فيها الرشوة
إلى مراكز الوزراء ومن فوقهم، حتى إن المال الذي يدفعه الراشي يمر بسلسلة
طويلة من الموظفين لا تقف إلا عند أعالي القوم، وكلما طالت السلسلة، زاد
مبلغ الرشوة، فأرهقت دافعها، وزاد انتشاراها، وتمدد فسادها، فاعتل بها جسد
الدولة فثار الناس، وسقطت الدولة، واضطرب أمر أهلها.
والرشوة تضعف هيبة الدولة حتى تقضي عليها،
فيسرح المجرمون فيها ويمرحون، ويُدخلون فيها ما يشاؤون من مخدرات وخمور
وأسلحة، ويتجرون بالدماء والأعراض، ويعتدون على الناس، ولا يردهم شيء عن
ذلك ما دامت الرشوة تفتح الحدود المغلقة لهم، وتحجب عين الرقيب عنهم، وترخي
القبضة الأمنية عليهم، وفي بعض البلدان يرتكب المجرم جريمته فيقبض الناس
عليه لكن الشرطة تطلقه؛ لأنه يدفع لهم، وتلبس التهمة غيره، وعمالقة تجار
المخدرات في الأرض تعرفهم أجهزة مخابرات الدول، وتصل إليهم طائراتها،
ولكنهم يتسلحون بالرشوة، فيسلمون، ويقبض على وكلائهم الصغار.
وإنما تنتشر الجريمة في الناس إذا سرت
الرشوة في رجال الأمن، وحراس الحدود، وإذا بلغت الرشوة أجهزة القضاء كتمت
الشهادة، وأخفت الحق، فاضمحل العدل، وانتشر الظلم، وكل أولئك سبب لرفع
الأمن، وحلول الخوف، واختلاط الأمر، واشتعال الفتنة والفوضى.
ولو علم الناس أن الرشوة تقضي على أمنهم
واستقرارهم، لَمَا تعامل بها أحد منه وهو يعلم أن مغبة الخوف والاضطراب
ستأتي عليه وعلى أهله وولده ومن يحب، وما ينفعه مال طائل اكتسبه بالرشوة
يضيع في الاضطراب والفوضى؟!
ولو أن الناس أدركوا خطر المرتشين على
مجتمعاتهم ودولهم، وأمنها واستقرارها، لَمَا سكتوا عن مرتش، واحتسبوا في
القضاء على الرشوة، ولكن الجهل بعواقب الأمور يسير بالناس إلى حتفهم وهم لا
يشعرون.
لقد بلغ انتشار الفساد والرشوة في الأمم والدول حدًّا لا يصدق،
حتى إن كثيرًا من الدول أنشأت أجهزة لمكافحة الفساد والرشوة، وحتى إن
المنظمات الدولية وضعت يومًا عالميًّا للاحتفال بمكافحة الفساد، وهذا يدل
على عمق المأساة التي يعيشها البشر في نظام أممي ظالم، يشرع للفساد والظلم،
ثم يضحك على البشر باصطناع أيام لمكافحته.
وهكذا تكون الحال إذا حكمت الأرض بغير شرع الله تعالى، وعطلت الدعوة إلى دينه، وحُورِب أتباع الدين الحق.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا ﴾ [النساء: 29-30].
بارك الله لي ولكم في القرآن...
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا
فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد
أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، ومن
اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ ﴿ وَاتَّقُوا
يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا
عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ [البقرة: 123].
أيها المسلمون:
من تأمل النصوص الواردة في النهي عن
الرشوة والتحذير منها، وعرض أخبار المرتشين، وما حل بهم علم خطورة الرشوة
على أمن البشر واستقرارهم، وأدرك حكمة الشارع في تحريمها والزجر عنها.
لقد عرض الله تعالى أخبار كفار بني
إسرائيل في القرآن الكريم، وذكر أنهم يأكلون السحت وهو الرشوة، وأن علماءهم
ما كانوا ينهونهم عنها، حتى وقعوا معهم فيها، فيا لخزيهم وفضيحتهم؛ ﴿ وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ *
لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ
الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [المائدة: 62-63].
فكان من آثار مشاركة علمائهم لهم في الرشوة أن علماءهم كتموا الحق، فاستحقوا غضب الله تعالى وعذابه؛ ﴿ إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ
وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 77].
وقد مدح الله تعالى من عف منهم عن الرشوة، وبين الحق الذي يجب عليه وهم قليل بالنسبة للمرتشين منهم؛ ﴿ وَإِنَّ
مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِالله وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ
وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ الله
ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ
اللهَ سَرِيعُ الحِسَابِ ﴾ [آل عمران: 199].
وكان من النتائج السيئة لتعاملهم بالرشوة ما رفع عنهم من أمن بسبب العداوة والبغضاء بينهم ﴿ وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ وَالبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ ﴾ [المائدة: 64].
وفي السنة النبوية من التشديد في أمر
الرشوة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لعَن صاحبها، واللعن من أشد
العقوبات؛ لأنه طرد من رحمة الله تعالى؛ ولذا أدرج العلماء الرشوة في كبائر
الذنوب؛ عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما، قَالَ: "لَعَنَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِي
وَالْمُرْتَشِي"؛ رواه أبو داود والترمذي وصححه.
وكل مؤمن يجب أن يفر من شيء لعنه رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - والعاقل لا يتلطخ بما يهدم الشرف، ويلوث
السمعة، ويقضي على المُروءة، والرشوة كذلك.
وكل صادق مع نفسه، ملتزم بدينه، حريص على
مجتمعه، ينفر من الرشوة ولو رأى الناس يقعون فيها، ويتسع ثراؤهم منها،
فإنها سحت يأكله الرجل، ويُطعم به أهل بيته، وقد تعجل عقوبته في الدنيا،
فيصاب في نفسه أو أهله أو ولده أو ماله، مع ما يدخر له من عقوبة الآخرة إن
لم يتب من هذا الداء الوبيل.
وعقلاء الناس وكبارهم يجب أن يتصدوا لهذه
الآفة الخبيثة التي تقضي على الأمن والاستقرار، وتحل الفساد في المجتمعات،
وتحدث فيها الخوف والاضطراب.
نعوذ بالله تعالى من قلوب لا تخشع، ومن
نفوس لا تشبع، ونسأله أن يغنينا بحلاله عن حرامه، وبطاعته عن معصيته،
وبفضله عمن سواه، إنه سميع مجيب.
وصلوا وسلموا على نبيكم.
تم النشر يوم
الخميس، 21 مارس 2013 ' الساعة