مقتل عمر رضيَ الله
عنه
الشيخ د. إبراهيم بن محمد
الحقيل
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ
إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاس اتَّقُوا
رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا
وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي
تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:
1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا *
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70-71].
أما بعد:
فإنَّ أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهَدْي هَدْي محمَّدٍ
- صلَّى الله عليه وسلَّم - وشر الأمور مُحْدَثَاتُها، وكل مُحْدَثَةٍ بدعةٌ، وكلَّ
بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالةٍ في النَّار.
أيها النَّاس:
من توفيق الله تعالى للعبد أن يستعمله في طاعته، ويبعده عن
معصيته؛ فيعمِّر أيامه ولياليه بطاعة الله - عزَّ وجلَّ - ويكون دأبه المسارعة في
الخيرات، والكفّ عن المحرمات.
وإذا ما كان هذا دأبُ العبد دهرَه كلَّه؛ فإنه حرِيٌّ بأن
يُخْتَم له بصالح عمله؛ فينال الفوز الأكبر، برضوان الله تعالى وجنَّته.
مَنْ حافظ على أمر الله تعالى فإنه يَخْتِم شهوره وأعوامه بصالح
عمله، ومَنْ خَتَمَ شهوره وأعوامه بالصَّالحات؛ خَتَمَ عمرَه بالصَّالحات أيضًا،
ومَنْ كان مخلِّطًا يعمل صالحًا ويعمل سيِّئًا؛ فيُخشى عليه أن يُخْتَم له
بالسُّوء، ومَنْ كان لا يعمل إلاَّ السُّوء؛ فهو هالكٌ، إلاَّ أن يتوب قبل أن
يموت.
ومن عباد الله الصالحين مَنْ تتزاحم عليه الأعمال الصالحة؛
فيوفَّق لأدائها، لو خُتِمَ له بواحد منها لخُتِمَ له بالخير، ولكنَّ الله تعالى
يزيده من الخير؛ لصلاح قلبه وعمله، فيُخْتَم له بجميعها؛ كما كانت خاتمة فاروق هذه
الأمَّة عمر بن الخطَّاب - رضيَ الله عنه.
فإنه خَتَمَ عامه الذي مات فيه بالحَجِّ، ومَنْ حَجَّ فلم
يَرْفُثْ ولم يَفْسِقْ؛ رجع كيوم ولدته أمُّه، ولم يلبث إلا زمنًا يسيرًا بعد حجِّه
حتى قضى؛ وتلك علامة خير، وحُسْن ختام.
ثمَّ إنه - رضيَ الله عنه - قُتِل ظلمًا وعدوانًا؛ وتلك
شَهَادَةٌ وحُسْن ختام، وطُعن - رضيَ الله عنه - وهو يصلِّي، وهذا أيضًا من حُسْن
خاتمته، وما قضى نَحْبَه - رضيَ الله عنه وأرضاه - إلاَّ وقد قام بحقوق رعيَّته،
فمضى وهم عنه راضون، وفجعوا بقتله - رضيَ الله عنه - وناله من دعائهم واستغفارهم له
ما ينفعه؛ وتلك من علامات الخير.
وعلى الرغم من أنه - رضيَ الله عنه - ممَّن شهد لهم النبيُّ -
صلَّى الله عليه وسلَّم - بالجنة، وأخبر - عليه السَّلام - في بعض أحاديثه أنه رأى
قصرًا لعمرَ في الجنة؛ فإنَّ عمر لم يغترَّ بذلك؛ بل اجتهد في الخير حتى خُتِمَ له
بأعمالٍ صالحةٍ كثيرة، كانت دليلاً على حُسْن خاتمته، رضيَ الله عنه وأرضاه.
سمعتْهُ ابنتُه؛ أم المؤمنين حَفْصَة - رضيَ الله عنها - يدعو
قائلاً: "اللهم ارزقني قتلاً في سبيلكَ، ووفاةً في بلد نبيِّكَ". قالت: قلتُ:
وأنَّى ذلك؟ قال: "إنَّ الله يأتي بأمره أنَّى شاء"[1]. وهذا من حُسْن ظنِّه بربِّه، ويقينه بقدرته - جلَّ
جلاله.
وحجَّ في العام الذي قُتل فيه، وسأل الله في حجَّته حُسْنَ
الختام؛ فعن سعيدٍ بن المسيِّب - رحمه الله تعالى -: "أنَّ عمرَ لما أفاض من مِنى،
أناخ بالإبْطِحْ، فكوَّم كومةً من بَطْحَاءَ، وطرح عليها طَرَف ثوبه، ثم استلقى
عليها، ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم كبرَتْ سنِّي، وضعفتْ قوَّتي، وانتشرتْ
رعيَّتي؛ فاقبضني إليكَ غير مضيِّعٍ ولا مفرِّط". قال سعيد: "فما انسلخ ذو الحجَّة
حتى طُعِنَ"[2].
وخَطَبَ مرَّةً فقال: "رأيتُ ديكًا نقرني ثلاث نقرات، ولا أراه
إلا حضور أجلي"، فما مرَّ إلا تلك الجمعة حتى طُعِنَ[3].
وفي روايةٍ: "أن رؤياه عُبِّرَتْ بأنه يقتله رجلٌ من الأعاجم"[4].
كان من سياسته - رضيَ الله عنه - أنه لا يأذن لسَبْيٍ بقيَ على
كفره أن يدخل المدينة، أو يعمل فيها؛ حتى كتب إليه المُغِيرَة بنُ شُعْبَة - رضيَ
الله عنه - وهو على الكوفة يذكر له غلامًا عنده صانعًا، ويستأذنه في أن يدخله
المدينة، ويقول: "إن عنده أعمالاً تنفع النَّاس، إنه حدَّادٌ نقَّاشٌ نجَّارٌ"؛
فأَذِنَ له، فضرب عليه المغيرة كل شهر مائةً، فشكى إلى عمر شدَّة الخَراج، فقال له:
"ما خراجكَ بكثيرٍ في جنب ما تعمل". فانصرف ساخطًا، فلبث عمرُ لياليَ، فمرَّ به
العبد فقال: ألم أحدَّث أنكَ تقول: "لو أشاءُ، لصنعت رَحًى تطحن بالرِّيح". فالتفت
إليه عابسًا فقال: "لأصنعنَّ لك رحًى يتحدَّث النَّاس بها". فأقبل عمر على من معه
فقال: "توعَّدني العبدُ"[5].
وفي حديث أبي رافع: "أن غلام المُغِيرَة أبا لؤلؤة المجوسي لقيَ
عمرَ؛ فقال: إن المُغِيرَة أثقل عليَّ. فقال: اتَّق الله وأحْسِن إليه، ومن نيَّة
عمر أن يلقى المُغِيرَة فيكلِّمه فيخفِّف عنه، فقال العبد: وَسِعَ النَّاس عدله
غيري. وأضمر على قتله"[6].
فلمَّا كان فجر يوم الأربعاء، قبل نهاية شهر ذي الحجَّة بأربعة
أيام - كَمَنَ أبو لؤلؤة في المسجد، ومعه سكينٌ ذات طرفَيْن مسمومةٌ، فوقف عمر يعدل
الصفوف للصلاة، فلما كبَّر يصلي بالنَّاس، طعنه العبد في كتفه وفي خاصرته؛ فقال
عمر: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} [الأحزاب: 38][7].
ثم أخذ العبد يسعـى، لا يمرُّ على أحدٍ يمينًا ولا شمالاً إلا
طعنه؛ حتى طعن ثلاثةَ عشرَ رجلاً، مات منهم سبعةٌ، فلما رأى ذلك رجلٌ من المسلمين؛
طرح عليه بُرْنُسًا، فلما ظنَّ العِلْجُ أنه مأخوذٌ؛ نَحَرَ نفسَه.
وتناول عمر يد عبدالرحمن بن عوف؛ فقدَّمه للصلاة بالنَّاس،
فصلَّى بهم صلاةً خفيفةُ، وحُمِلَ عمر إلى بيته وقد غلبه النَزْف حتى غُشيَ عليه،
فلما أسفر الصُّبح استيقظ فقال: أَصَلَّى النَّاس؟ قالوا له: نعم. قال: لا إسلام
لمن ترك الصَّلاة. ثم توضَّأ وصلَّى، وقال ابن عمر: وتساند إليَّ وجَرْحُهُ
يَثْغَبُ دمًا، إني لأضع إصبعي الوسطى فما تَسُدُّ الفَتْقَ"[8].
فقال عمر لابن عباس: "اخرجْ فنادِ في النَّاس: أعن مَلاَءٍ منكم
كان هذا؟ فقالوا: مَعاذَ الله، ما علمنا ولا اطَّلعنا"[9].
وفي روايةٍ: "فظنَّ عمر أن له ذنبًا إلى النَّاس لا يعلمه، فدعا
ابن عباس، وكان يحبُّه ويُدْنِيه، فقال: أحبُّ أن تعلم عن مَلاءٍ منَ النَّاس كـان
هذا؟ فخـرج، لا يمرُّ بمَلاءٍ من النَّاس إلا وهم يبكون؛ فكأنما فقدوا أبكارَ
أولادهم؛ فأخبره. قال ابن عباسَّ: فرأيت البِشْرَ في وجهه"[10].
حتى إنَّ القوم قالوا: "لوددنا أن الله زاد في عمركَ من
أعمارنا، من محبَّتهم له - رضيَ الله عنه"[11].
فلما علم عمر أن الذي قتله عبدٌ مجوسيٌّ قال: "الحمد لله الذي
لم يجعل قاتلي يحاجَّني عند الله بسجدةٍ سجدها قطُّ"، وفي حديث جابر: أن عمر - رضيَ
الله عنه - قال: "لا تعجلوا على الذي قتلني. فقيل: إنه قتل نفسه. فاسترجع عمر؛ فقيل
له: إنه أبو لؤلؤة؛ فقال: الله أكبر"[12].
فجاء الطبيب، فسقى عمرَ نبيذًا، فخرج من جرحه، ثم سقاه لبنًا،
فخرج من جرحه؛ فعرف أنه الموت؛ فقال: "الآن لو أنَّ لي الدنيا كلَّها، لافتديتُ به
من هول المُطَّـلع"[13].
فجعل النَّاس يُثْنونَ عليه، ويذكرون أعماله العظيمة في
الإسلام؛ فكان يجيبهم فيقول: "إن المغرور من تغرُّونه"[14].
وجاءه شابٌّ فقال: "أبْشِر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لكَ من
صحبة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقدم في الإسلام ما قد عملت، ثم وُلِّيتَ
فعَدَلْتَ، ثم شَهَادَةٌ. قال: وددت أن ذلك كفافٌ، لا عليَّ ولا لي. فلما أدبر، إذا
إزاره يمسُّ الأرض؛ فقال: ردُّوا عليَّ الغلام. قال: يا ابن أخي، ارفع ثوبك؛ فإنه
أبقى لثوبكَ، وأتقى لربِّك"[15]. قال ابن
مسعود: "يرحم الله عمر، لم يمنعه ما كان فيه من قول الحقِّ"[16].
وأرسل ابنه عبدالله إلى عائشة، قال: "انطلق إلى عائشة أمِّ
المؤمنين؛ فقُلْ: يقرأ عليكِ عمرُ السَّلامَ - ولا تَقُلْ: أميرَ المؤمنين، فإنِّي
لست اليوم للمؤمنين أميرًا - وقُلْ: يستأذن عمر بن الخطاب أن يُدْفَنَ مع
صاحبَيْه"[17]، وإنما قال ذلك لئلاَّ تفهم
عائشة أنه أمرٌ، وهو الإمام؛ فطاعته واجبةٌ، فترك لها الخيار، وطلب منها هذا الطلب
على سبيل الرَّجاء، وليس على سبيل الأمر.
فسلَّم عبد الله بن عمر واستأذن على عائشة، فوجدها قاعدةً تبكي،
فقال: "يقرأ عليكِ عمر بن الخطاب السَّلام، ويستأذن أن يُدْفَن مع صاحبَيْه. فقالت:
كنتُ أريده لنفسي، ولأوثرنَّه به اليوم على نفسي. فلما أقبل قيل: هذا عبدالله بن
عمر قد جاء. قال: ارفعوني. فأسنده ابن عباس إليه، فقال: ما لديكَ؟ قال: الذي تحبُّ
يا أمير المؤمنين، أَذِنَتْ. قال: الحمد لله، ما كان من شيءٍ أهمّ إليَّ من ذلك،
فإذا أنا قضيتُ فاحملوني؛ ثم سلِّم فقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أَذِنَتْ لي
فأدخلوني، وإن ردَّتني ردُّوني إلى مقابر المسلمين"[18].
وكان ابن عباس يُثني عليه وهو مسندٌ له، فلما انتهى من ثنائه
قال عمر: "ألْصِقْ خدِّي بالأرض يا عبدالله بن عمر. قال ابن عباس: فوضعتُه من
فَخِذِي على ساقي؛ فقال: ألْصِقْ خدِّي بالأرض! فوضعتُه حتى وضع لحيته وخدَّه
بالأرض؛ فقال: ويلكَ عمرُ إن لم يغفر الله لكَ"[19].
قال عبدالله بن عامر بن ربيعة: "رأيتُ عمرَ أخذ تِبْنَةً منَ
الأرض؛ فقال: ليتني كنتُ هذه التِّبْنَة، ليتني لم أُخْلَقْ، ليت أمِّي لم تلدني،
ليتني لم أكُ شيئًا، ليتني كنتُ نَسْيًا منسيًّا"[20].
فلما مات - رضيَ الله عنه - قال عليٌّ: "ما على الأرض أحدٌ ألقى
الله بصحيفته أحبّ إليَّ من هذا المسجَّى بينكم"[21].
وصلَّى عليه صُهَيْبٌ الرُّومي في مسجد رسول الله - صلَّى الله
عليه وسلَّم - ودُفِنَ بجانب صاحبَيْه؛ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأبي
بكر - رضيَ الله عنه[22].
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ المُؤْمِنِينَ رِجَالٌ
صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة
الثَّانية
الحمد لله، حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحبُّ ربُّنا
ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشـهد أن لا إله إلا الله وحـده لا
شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله
وأصحابه، ومَنِ اهتدى بهداهم إلى يوم الدِّين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه؛ فإن الأيام تمضي، والأعمار تَنْقُص،
وما يكاد عامٌ يبتدي إلاَّ وينتهي، وكلُّ يومٍ يمضي يباعدنا عن الدنيا، ويقرِّبنا
منَ القبر والآخِرة، وما الإنسان إلا أيامٌ هي أيام عمره.
فالسعيد مَنْ عمل للآخِرة، ولم تغرُّه الدنيا: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ
وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ}
[الحشر: 18-19].
أيها الإخوة في الله:
كان مقتل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضيَ الله عنه - فاجعةً
لا كالفواجع؛ لأنه كان حصن الإسلام، ودِرْع الأمة، وباب الفتنة الذي ظل مغلقًا حتى
كُسِرَ بقتله؛ فخرجت الفتن على أُمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
قالت أمُّ أيمن - رضيَ الله عنها - يوم أصيب عمر: "اليوم وَهَى
الإسلام"[23].
وقال زيدُ بن وهب - رحمه الله تعالى -: "أتينا ابن مسعود، فذكر
عمر، فبكى حتى ابتلَّ الحصى من دموعه وقال: إنْ كان عمر حصنًا حصينًا للإسلام،
يدخلون فيه ولا يخرجون منه، فلما مات عمر انْثَلَم الحصن؛ فالنَّاس يخرجون من
الإسلام"[24].
وبكى سعيد بن زيد - رضيَ الله عنه - وقال: "على الإسلام أبكي،
إنَّ موت عمر ثَلَمَ الإسلام ثَلْمَةً لا تُرْتَقُ إلى يوم القيامة"[25].
وقال حُذيفة - رضيَ الله عنه - أمينُ سرِّ رسول الله - صلَّى
الله عليه وسلَّم -: "إنما كان مَثَلُ الإسلام أيام عمر مَثَلَ امرئٍ مقبلٍ، لم يزل
في إقبالٍ، فلما قُتِلَ أدْبَرَ، فلم يزل في إدْبارٍ"[26].
قال أنسٌ - رضيَ الله عنه -: "ما من أهل بيتٍ من العرب حاضرٌ
وبادٍ، إلاَّ قد دخل عليهم بقتل عمر نَقْصٌ"[27].
إن هذه الآثار وغيرها عن جِلَّةِ الصحابة وفقهائهم - رضيَ الله
عنهم وأرضاهم- لَتُبَيِّن حجم الخسارة بقتل عمر - رضيَ الله عنه - إذ في وقته ما
كان لمنافقٍ أن يطلع قرنُه، ولا لمفسدٍ أن ينشر فساده؛ هيبةً لعمر وخوفًا منه، فلما
قُتِلَ؛ ظهرتِ الفتن، وعمل المنافقون والمفسدون على هدم الإسلام، حتى قُتِلَ في هذه
الفتن ظلمًا وعدوانًا الخليفتان الرَّاشدان عثمان وعلي - رضيَ الله عنهما، ووقع
السيف في أمَّة محمدٍ - صلَّى الله عليه وسلَّم.
لقد كان أعداء الإسلام يعلمون ما لعمر - رضيَ الله عنه - من
مكانة عند المسلمين، ويدركون قوَّة الإسلام بحكمه وعدله؛ فكان لابدَّ من
قتله.
والإمام العادل لا يوجد أيَّ مسوِّغٍ لقتله؛ لأنَّ النَّاس
مؤمنهم وكافرهم يرضون بالعدل، ويحبون الحاكم العادل، ويخضعون له، وعدل عمر لا يخفى
على أحدٍ، حتى شهد له به أعداؤه، ولكن أهل الأحقاد والضغائن لا يشفع عندهم عدله وإن
عدل، وهذا ما كان في قلب المجوسيِّ أبي لؤلؤة ومَنْ معه ممن تآمروا على قتل عمر،
ولم يُشْفِ ما في صدورهم من غيظٍٍ إلاَّ دمُ عمر - رضيَ الله عنه.
ولذلك استغرب عمر لما أُخبر أن قاتله هو أبو لؤلؤة المجوسي،
وقال: "قاتله الله، لقد أمرتُ به معروفًا"[28].
ومعروفُ عمر في أبي لؤلؤة لم يُزِلْ حقده عليه، وهو الذي كان
يأتي إلى السَّبْي الصِّغار من المجوس، فيمسح على رؤوسهم ويبكي ويقول: "إن العرب
أكلت كَبِدي، ويقول: أكل عمر كبدي"[29].
إنه إذًا حقدٌ دينيٌّ علـى عمـر، وعلى مَنْ يدين بدين عمر، ولا
زالت مظاهر هذا الحقد موجودة إلى اليوم، وستظلُّ إلى يوم القيامة، يشعلها الكفار
على كلِّ مَنْ يدين بدين عمر - رضيَ الله عنه.
والشريعة كتابًا وسُنَّةً تثبت ذلك، والتاريخ يدلُّ عليه،
والواقع يشهد له.
فكلُّ الأمم تجتمع على أمَّة الإسلام، وكلُّ أصحاب الدِّيانات -
على الرغم مما بينهم من عداءٍ - يتآزرون على المسلمين، ولن يرضوا منهم إلا الكفر
الصُّراح؛ كما جاء في القرآن.
فأعمال عُبَّاد العِجْل الصهاينة في أبناء فلسطين تدلُّ على
ذلك.
وأعمال عُبَّاد الصَّليب في البوسنة وكوسوفا وإندونيسيا دلَّت
على ذلك.
وأعمال عُبَّاد البقر الهندوس من حرق المسلمين أحياءً تدلُّ على
ذلك.
وأعمال عُبَّاد المادَّة منَ الشُّيوعيين دلَّت على ذلك في بلاد
الأفغان ثمَّ الشِّيشان.
وأعمال خلفائهم الرأسماليين تدلُّ على ذلك في قرى الأفغان التي
تُمحى منَ الوجود.
والسلسلة ستظل متصلةٌ من الكيد والمكر والتآمر؛ حتى لا يبقى على
وجه الأرض مسلمٌ موحِّدٌ لو استطاعوا ذلك.
إن الذين يظنُّون أنَّ البشريَّة ستنعم بالأمن والرَّخاء مع
تطور الإنسان ورُقِيِّه حالمون؛ فإن أهل الحضارة المعاصرة ما زادتهم حضارتهم إلا
قوَّةً وشدَّةً وحقدًا على أهل الإسلام؛ بل وعلى البشرية جمعاء.
وإن المخدوعين الذين يظنُّون أن الصِّراع سيتوقَّف، أو أنه لا
عَلاقة للدِّين به جاهلون بالسُّنن الكونيِّة، وبالآيات الشرعيَّة الدَّالة على
بقاء الصِّراع بين الحقِّ والباطل إلى قيام الساعة.
وخيرٌ لهم إن كانوا يعقلون أن يستمسكوا بإسلامهم؛ حتى يلقوا
الله - عزَّ وجلَّ - وهم لم يبدِّلوا ولم يغيِّروا.
وإن ذِلَّة المسلمين وضعفهم لا تستوجب التخلِّي عنِ الإسلام
الحقِّ، أو التبرُّؤ منه، مهما كانت التَّبِعات والتَّضْحيات، وكلما عَظُمَ البلاء
عَظُمَ الأجر، وكلما اشتدَّتِ المِحن اقترب الفَرَج، ولن يغلب عسرٌ
يُسْرَيْن.
ألا وصلُّوا وسلِّموا على محمدٍ بن عبدالله،كما أمركم بذلك
ربُّكم.
[1] طبقات ابن سعد
(2/252).
[2] حلية الأولياء (1/54)
والطبقات (2/255)، والآحاد والمثاني لابن أبي عاصم (1/107)، وفضائل الصحابة للإمام
أحمد (1/398).
[3] أخرجه مسلم في المساجد،
باب نهي من أكل ثومًا... (567).
[4] الطبقات (2/255)، وفتح
الباري لابن حجر (7/78). وفي الطبقات أن أسماء بنت عميس - رضيَ الله عنها - التي
عبرتها بذلك.
[5] الطبقات (3/262)،
وتاريخ الطبري (2/559).
[6] أخرجه أبو يعلى (2731)
والحاكم (3/91) والبيهقي (4/16) وصححه ابن حبان (6905)، وقال الهيثمي في الزوائد
(9/76): ورجاله رجال الصحيح.
[7] الطبقات (3/265)،
والفتح (7/78).
[8] الطبقات (3/263)،
والفتح (7/79).
[9] الطبقات (3/259).
[10] جاء ذلك في رواية
ابن عمر عند الطبراني في الأوسط (579)، وحسن إسناده الهيثمي في الزوائد (9/74 ـ
75).
[11] الطبقات
(3/265).
[12] الفتح (7/79).
[13] جاء ذلك في حديث أبي
رافع المخرج في هامش (6).
[14] جاء ذلك في حديث ابن
عمر المخرج في هامش (10).
[15] جاء ذلك في حديث
عمرو بن ميمون عند البخاري في فضائل الصحابة باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن
عفان - رضيَ الله عنه - (3700).
[16] أخرجه أحمد في فضائل
الصحابة (329) وانظر: فتح الباري (7/81).
[17] جاء ذلك في حديث
عمرو بن ميمون المخرج في هامش (15).
[18] المصدر
السابق.
[19] جاء ذلك في حديث ابن
عمر المخرج في هامش(10)، والطبقات (3/274).
[20] الطبقات (3/274)،
وتاريخ الخلفاء (219).
[21] الطبقات
(3/282).
[22] الطبقات (3/281)،
وقد كان صهيب - رضيَ الله عنه - يصلي بالنَّاس في مسجد رسول الله - صلَّى الله عليه
وسلَّم - بتكليف من عمر ؛كما في حديث أبي رافع: "أن عمر أمر صهيبًا يصلي
بالنَّاس".
[23] الطبقات (3/281)،
ومجمع الزوائد (9/77).
[24] الطبقات (2/283)،
ومجمع الزوائد (9/77).
[25] الطبقات
(2/284).
[26] الطبقات
(3/285).
[27] الطبقات
(3/286).
[28] صفة الصفوة (288)،
والتمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان لابن أبي بكر المالقي الأندلسي (24).
[29] تاريخ الطبري
(2/530)، والبداية والنهاية (7/112)، والطبقات (3/264)، والمنتظم
(4/280).
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأربعاء، 27 مارس 2013 ' الساعة