أدب الداعية مع أهل بيته
دعوة إبراهيم - عليه السلام - لأبيه أنموذجًا
دعوة إبراهيم - عليه السلام - لأبيه أنموذجًا
فاطمة سعيد الوادعي
الوالدانِ أقربُ الناس، وألصقُهم بالنفس، وأحبُّهم للقلب، وأولى بالبِرِّ والنصح، فالدعوة والتحبُّب إليهم لها طابعٌ خاص، لا بدَّ أن يغلف بالرِّفق واللِّين والرحمة، وهذا ما سعَى إليه إبراهيم - عليه السلام - في دعوتِه لأبيه، ابتدأ خطابَه بذِكْر أُبوته الدالَّة على توقيره، ولم يسمِّه باسمه، ثم أخرج الكلام معَه مخرجَ السؤال، فقال: ﴿ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا ﴾ [مريم: 42]، ولم يقل: لا تعبُد[1]، ثم استمرَّ بالتحبب والملاطفة، فقال: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لاَ تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا ﴾ [مريم: 43 - 44] .
قال السَّعديُّ - رحمه الله -:
وفي هذا الخِطاب مِن اللطف واللين، ما لا يخفَى، فإنَّه لم يقل: "يا أبت أنا عالِم، وأنت جاهِل"، أو "ليس عندك مِن العلم شيء"، وإنما صاغ الخِطاب، بأنا عندي وأنت عندَك عِلم، ولكن الذي وَصَلني لم يصلْك، فينبغي أن تتَّبع الحُجَّة[2].
ثم قال: ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا ﴾ [مريم: 45]، والتعبيرُ بالخوف الدالِّ على الظنِّ دون القطْع تأدُّب مع الله تعالى، بألا يُثبت أمرًا فيما هو من تصرُّفِ الله، وإبقاء للرجاء في نفْس أبيه؛ لينظرَ في التخلُّص من ذلك العذاب، بالإقلاع عن عِبادة الأوثان، ونَسَب الخوف لنفْسه دون أبيه؛ شفقةً عليه، وذكر لفظة ﴿ يَمَسَّكَ ﴾الذي هو ألطف مِن غيره، ثم ذَكَر الرحمن، ولم يقل الجبَّار، ولا القهَّار[3]، فذِكْر الخوف ونكر العذاب درسٌ للدُّعاة الذين يتسرَّعون في إصدار الأحكام على آحادِ المدعوِّين، ولا يتورَّعون عن تخويفهم وتَرهيبهم، حتى يدفعوهم دفعًا إلى اليأس والقُنوط مِن رحمة الله[4].
واستمرَّتْ هذه الشفقة والرحمة مِن إبراهيم - عليه السلام - بوالده حتى في عَرَصات يوم القيامة، حين يَلْقاه وهو على تلك الحال مِن البؤس والنَّكد والشقاء، فيذُكِّره بنصحه إيَّاه في الحياة الدنيا، وكيف نهاه عن عِصيانه، فيقول: (اليومَ لا أَعصيك يا إبراهيم)! فيُخاطِب إبراهيمُ ربَّه مطالِبًا إياه أن يفي له بما وعَده به في الدنيا، فقد وعدَه ألاَّ يُخزيَه في الموقف العظيم.
قال تعالى: ﴿ وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 87 - 89]، فيقول لربِّه في ذلك اليوم: (يا ربِّ، إنَّك وعدتَني ألا تُخزيني يومَ يبعثون، فأيُّ خِزي أخْزَى من أبي الأبَعَد؟!)، إنَّك إن أدخلتَ أبي النار، فيَراه مَن يعرِفه مِن أهل النار، وقد يَراه من يَعرِفه مِن أهل الجنَّة فيعلمون أنَّه أبي، فأُخزى به، فيقول ربُّ العزة والجلال لإبراهيم: ((إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ على الكافِرِينَ))، وهو قول لا استثناءَ له، ولكنَّه يُحقِّق النجاةَ لإبراهيم مِن الخزي بغير إدْخال والدِه الجنة، فقد مسخَه ذيخًا[5] متلطِّخًا بقاذوراته وأوساخِه، وعندَ ذلك تتلاشَى الرحمة التي في قلْب إبراهيم لأبيه وتتوارَى، فالجنة ليستْ محلاًّ لمثل هذه القاذورات والأوساخ، ووالده قد تلطَّخ بنجاسات الشِّرْك، وأوساخ الذُّنوب، ومكان مِثل هذه القاذورات النار[6].
فحريٌّ بالداعي الموفَّق اليوم أن يسلُكَ هذا المسلك في مخالطتِه لأفراد أهل بيتِه، مِن التحبُّب والتلطُّف، فهم الذين يَقضي معهم صدر حياته، ويُشاركهم في جميعِ شؤون حياتِهم وأثناء اللَّيْل والنَّهار، فخلطتهم ودعوتهم والإحسان إليهم آكَد، عن كليب بنُ مَنْفَعَةَ عن جَدِّهِ أنَّهُ أتَى النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: يا رسولَ الله، مَنْ أَبَرُّ؟ قالَ: ((أُمَّكَ وَأَباكَ، وأُخْتَكَ وَأَخاكَ، ومَوْلاكَ الَّذي يَلِي ذاكَ حَقٌّ واجِبٌ ورَحِمٌ مَوْصولَةٌ))[7].
فالأُسرة ميدانٌ خصْب من ميادين الدعوة لهذا الدِّين، وأوَّل المخالطة والجهْد الدعوي ينبغي أن يُوجَّه إلى البيت، وما نرَى اليوم مِن مظاهر انحراف بعضِ الشباب وضياعهم إلا بسببِ إهمال جانب الدَّعْوة في البيوت، والتقصير في أداء مهمَّة التربية والإصلاح[8].
[1] "بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم "، يسري السيد (3/ 142).
[2] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، السعدي (ص: 444).
[3] "تفسير التحرير والتنوير - ابن عاشور" (1/ 2604)، و"بدائع التفسير الجامع لتفسير ابن القيم"، يسري السيد، (3/ 142).
[4] "مواقف إيمانية من قصة الخليل إبراهيم"، مهاب عثمان، (ص: 8)، (د.د، ط1، 2003).
[5] الذيخ: ذكَر الضِّباع والأنْثى ذِيخَة؛ "النهاية في غريب الحديث والأثر"، ابن الأثـير، (ص: 331)، مـادة (ذيخ).
[6] صحيح البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ﴾ [النساء: 125] رقم (3350)، (ص: 825)، و"فتح الباري بشرح صحيح البخاري"، ابن حجر، (13/287)، "قصص الغيب في صحيح الحديث النبوي"، د.عمر سليمان الأشقر، (ص: 32، 33)، (دار النفائس: عمان، ط1، 1427هـ).
[7] سنن أبي داود،كتاب الأدب، باب بر الوالدين، رقم (5410،2/757)، وقال الألباني: حديث حسَن، تخريج أحاديث مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام - الألباني، (ص: 30)، (المكتب الإسلامي: د.م، ط1، 1405هـ).
[8] مسؤولية المرأة في الدعوة إلى الله - د. أسماء راشد الرويشد، (ص: 17)، (دار الوطن: الرياض، ط1، 1423هـ).
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الاثنين، 4 مارس 2013 ' الساعة