الجمعة، 15 مارس 2013


التنشئة بأسلوب القدوة العملية 



د. عبد الرب نواب الدين آل نواب

 

التنشئة بأسلوب القدوة العملية
والتعويد والترغيب والترهيب على مكارم الأخلاق



الأخلاق هي لُبُّ الإسلام وجوهره؛ لأن الإسلام في حقيقته إنما هو دعوة إلى مكارم الأخلاق؛ كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إنما بُعِثت لأُتَمِّم صالح الأخلاق))[1].


فمُفتتح الأخلاق ومُبتدؤها الإخلاص لله تعالى، وهو مقصد التربية الإسلامية وهدفُها الأجَلُّ، والأبوانِ المسلِمانِ الواعيانِ ينبغي قبل كل شيء أن يُحقِّقا الإخلاص لله تعالى، وأن يَتحَلَّيا بمكارم الأخلاق؛ ليكون تعليمهما الأولادَ ذلك وتربيتهما عليه بأسلوب القدوة العملية، التي هي أعمق تأثيرًا من الأسلوب الخِطابي، أو التلقين، أو التذكير، أو غيرها من أساليب التعليم.



ولقد أمَر القرآن العظيم عموم المسلمين بالتحلي بمكارم الأخلاق ومجامعها، ونهاهم عن رذائلها؛ قال - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].
كما شنَّع على الذين يقولون ما لا يفعلون، الذين تُخالف أقوالُهم أفعالَهم؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2 - 3].
ونوَّه بقيمة الكلمة التي يَتبعها عملٌ وقدوة صالحة، يراها الولد في أبويه أو أحدهما؛ قال - تعالى -: ﴿ يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا ﴾ [مريم: 28].
إن تربية الأولاد على الأخلاق الإسلامية مهمة جليلة، بل هي المهمة الأساس التي تُناط بالآباء، فليس أحد أقدرَ من الوالدينِ على ترسيخ الأخلاق في فؤاد الولد، وتَحويرها على النمط المتوخَّى، وحمايته من المؤثرات السلبية؛ قال الإمام ابن القيِّم - رحمه الله -: "ومما يحتاج إليه الطفل غايةَ الاحتياج: الاعتناء بأمر خُلقه؛ فإنه ينشَأ على ما عوَّده المربي في صغره من حَرَدٍ[2] وغضَبٍ ولَجاجٍ، وعجَلة وخِفةٍ مع هواه، وطيشٍ وحِدَّة وجَشعٍ، فيصعُب عليه في كِبَره تلافي ذلك، وتصير هذه الأخلاق صفاتٍ وهيئاتٍ راسخةً له، فلو تحرَّز منها غاية التحرُّز، فضَحته ولا بدَّ يومًا ما؛ ولهذا تجد أكثر الناس مُنحرفة أخلاقُهم، وذلك من قِبَل التربية التي نشَؤوا عليها".
وكذلك يجب أن يتجنَّب الصبي - إذا عقَل - مجالسَ اللهو والباطل، والغناء وسماع الفُحش والبدع، ومنطق السوء، فإذا علِق بسمعه، عَسِر عليه مفارقته في الكِبَر، وعزَّ على وليِّه استنقاذُه منه، فتغيير العوائد من أصعب الأمور، يحتاج صاحبه إلى استجداد طبيعة ثانية، والخروج على حُكم الطبيعة المعتادة عَسِرٌ جدًّا.
وينبغي لوليِّه أن يُجنِّبه الأخذ من غيره غاية التجنُّب، فإنه متى اعتاد الأخذ، صار له طبيعة، ونشأ بأن يأخذ لا بأن يُعطي، ويُعوِّده البذل والإعطاء، وإذا أراد الوليُّ أن يعطي أحدًا شيئًا، أعطاه إيَّاه على يده ليَذوق حلاوة الإعطاء!
ويُجنِّبه الكذب والخيانة أعظم مما يُجنِّبه السُّمَّ الناقع؛ فإنه متى سهَّلَ له سبيلَ الكذب والخيانة، أفسد عليه سعادة الدنيا والآخرة، وحرَمه كلَّ خيرٍ.
ويُجنِّبه الكسل والبطالة، والدَّعة والراحة، بل يأخذه بأضدادها، ولا يُريحه إلا مما يُجِمُّ نفسه وبدنه للشغل؛ فإن للكسل والبطالة عواقبَ سوءٍ ومَغبَّة ندمٍ، وللجد والتعب عواقب حميدة؛ إما في الدنيا، وإما في العُقبى، وإما فيهما، فأروحُ الناس أتعبُ الناس، وأتعبُ الناس أروح الناس؛ فالسيادة في الدنيا والسعادة في العقبى، لا يُوصَل إليهما إلا على جِسرٍ من التعب، ويُعوِّده الانتباه آخر الليل؛ فإنه وقت قَسْم الغنائم وتفريق الجوائز، فمستقلٌّ، ومُستكثر، ومحروم، فمتى اعتاد ذلك صغيرًا، سهُل عليه كبيرًا"[3].
وقال: "ويُجنِّبه فضول الطعام والكلام، والمنام ومخالطة الأنام، فإن الخسارة في هذه الفضلات تُفوِّتُ على العبد خير دنياه وآخرته، ويُجنبه مضارَّ الشهوات المتعلقة بالبطن والفرْج غاية التجنُّب، فإن تمكينه من أسبابها والفَسْح له فيها، يُفسده فسادًا يَعِزُّ عليه بعده صلاحُه، وكم ممن أشقى ولدَه وفِلذة كبده في الدنيا والآخرة، بإهماله وترْك تأديبه، وإعانته له على شهواته، ويزعُم أنه يُكرمه وقد أهانَه، وأنه يَرحَمه وقد ظلَمه! ففاته انتفاعه بولده، وفوَّت عليه حظَّه في الدنيا والآخرة، وإذا اعتبرت الفسادَ في الأولاد، رأيت عامَّته من قِبَل الآباء".
هذا ولا يَخفى أهمية إبراز جانب القدوة العملية في أخلاق الوالدين؛ إذ طبْعُ الولد على حبِّ المُحاكاة والتقليد، فهو يرى العالم من خلال ما يُلقِّنه الأب والأمُّ، وتُمثِّل أخلاقهما المعيار الأصدقَ والأسمى في نظر الطفل؛ لذا نوَّه الحديث الشريف بتأثير الوالدين العميق في (تديُّن) الولد، وتوجُّهه الفكري والعقدي؛ كما أشار إلى ذلك حديثُ أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ما مِن مولودٍ إلا يُولَد على الفطرة؛ فأبواه يُهوِّدانِه، أو يُنصِّرانِه، أو يُمَجِّسانِه، كما تُنتَج البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ، هل تُحِسُّون فيها من جَدعاءَ))[4].
وعليه؛ فينبغي للآباء توخِّي الصدق وعِفة اللسان، والالتزام بسائر الخصال الشريفة التي يأمر بها الدين الحنيف، والتزامُهم بذلك جزءٌ أساس في صلاح البيت، وأسلوب رشيد بالغ التأثير في تربية الأولاد على الخُلق الفاضل والسَّمت الكريم.
وفيما يلي من مقالات بعضُ النماذج المُقتبسة من الكتاب العزيز وسُنة النبي - صلى الله عليه وسلم - يستضاء بها في هذا المضمار.







[1] رواه الإمام أحمد في مسند المكثرين، حديث رقم (8595).


[2] الحرَد: سرعة الغيظ، قال في المعجم الوسيط (1/ 165): حَرِد: اغتاظَ، فتحرَّش بالذي غاظَه وهَمَّ به.


[3] تحفة الودود، ص (146).


[4] متفق عليه.





                 
المصدر : شبكة الألوكة
 تم النشر يوم  الجمعة، 15 مارس 2013 ' الساعة  7:43 ص


 
Toggle Footer