الرزق
مراد باخريصةمن الهموم المهمة التي تشغل بالنا وتسيطر على تفكيرنا وتأخذ جل أوقاتنا وطاقاتنا هموم المعيشة ومسألة الرزق والبحث عن لقمة العيش فنريد اليوم أن نسلط الأضواء على هذه المسألة المهمة.
عباد الله:
إن الله خلق الخلق فأحصاهم عدداً وقسم أرزاقهم وأقواتهم فلم ينسى منهم أحداً رزق الطير في الهواء ورزق الحوت في الماء ورزق الحية في العراء ورزق الوحوش في الصحراء ورزق الدود في الصخرة الصماء ورزق النملة الصغيرة السوداء ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.
سبحان من رزقنا ونحن في بطون أمهاتنا لا بصر يدركنا ولا يداً تنالنا فمدَّ لنا حبلاً سرياً من بطون أمهاتنا ليمر منه غذائنا ثم وضع لنا لبناً في ثدي أمنا وألهمنا وهدانا لالتقام الثدي الذي فيه رزقنا يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا ويؤمر بأربع كلمات ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ... ).
سبحان من رفع السماء وبناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منه مائها ومرعاها والجبال أرساها متاعاً لكم ولأنعامكم سبحان من أوحى ﴿ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ﴾.
ذكر ابن الجوزي رحمه الله أن رجلاً رأى عصفوراً يأتي كل يوم بقطعة لحم فيضعها على رأس نخلة ثم يرحل فتعجب الرجل من هذا العصفور إذ أن العصافير لا تعشعش في النخل فتسلق النخلة فوجد حية عمياء على رأس النخلة يأتيها هذا العصفور بهذا اللحم فإذا اقترب منها فتحت فمها فيلقيه في فمها ثم يرحل فسبحان الله الرزاق ﴿ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ _ أي كثير الرزق _ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ بل هو سبحانه وتعالى خير الرازقين ﴿ قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾.
يذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن أبالحسن النحوي رحمه الله كان يأكل مع بعض أصحابه فجاء قط فرموا له شيئاً فأخذه وذهب سريعاً ثم أقبل مرة ثانية فرموا له شيئاً فأنطلق به سريعاً ثم أقبل مرة ثالثة فرموا له شيئاً فأنطلق به سريعاً ثم أقبل فعلموا أنه لا يأكل هذا كله فتبعوه فإذا به يذهب به إلى قط آخر أعمى في سطح هناك فتعجبوا من ذلك فقال أبو الحسن رحمه الله يا سبحان الله هذا حيوان بهيم قد ساق الله إليه رزقه على يد غيره أفلا يرزقنا ونحن نعبده ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ﴾.
يحدث أحد الناس أنه كانت لديهم مزرعة صغيرة مشترك فيها هو وإخوانه الثلاثة قال فكانت السماء إذا أمطرت حرثنا هذه الأرض فتخرج لنا أربعمائة مد يعني على عددهم لكل واحد منهم مائة مد فمات أخوهم الكبير قال ففي السنة التي مات فيها لم تنتج لنا إلا ثلاثمائة مد وبعد سنوات مات أحد إخوانه فلم تنتج إلا مائتي مد وصدق الله جل جلاله إذ يقول ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾.
فلماذا يعطي بعضنا هذه المسألة أكبر من حجمها فيطغى عليه حب الماديات والمحسوسات ويجمع المال من الحلال والحرام حتى تؤثر هذه الماديات على عباداته وأخلاقه ومعاملاته وتصبح الأمور عنده تقاس بالماديات وينسى الإيثار والرحمة والتكافل وحب الخير حتى بلغ الأمر ببعض الماديين أن يظن أن التمسك بالدين يُقلل الرزق وأن المظهر الإسلامي يُذهب عنه الفرص وأصبح الناس يصيحون ويطالبون ويتظاهرون من أجل الرغيف والخبز ولا يصيحون ولا يطالبون بإقامة الدين وتحكيم الشريعة وفرض الفضيلة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا ﴾.
لماذا يسرق السارق ولماذا يرتشي المرتشي ولماذا يرابي المرابي ويختلس المختلس؟ لماذا الحسد والنجش والخداع والبغي والظلم والله جل جلاله قد ضمن الرزق حتى للبهيمة العاجزة الضعيفة ﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.
أين التوكل على الله والاعتماد عليه بعد بذل الأسباب وذلك بأن يظهر العبد عجزه وفقره وضعفه ويعتمد على خالقه يقول النبي صلى الله عليه وسلم (لو أنكم توكلون على الله تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا).
قيل لرجل من أين تأكل قال الذي خلق الرحى يأتيها بالطحين وليس معنى هذا ترك العمل بالأسباب التي يكتسب الرزق بواسطتها فإن طلب الرزق والتكسب لجمع المال والعمل من أجل لقمة العيش أمرٌ أمر الله به في كتابه الكريم فقال سبحانه وتعالى ﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ﴾ ويقول ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ﴾ ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا ﴾ بل إن الله جل جلاله قرن بين المجاهدين في سبيل الله وبين الباحثين عن رزق الله فقال سبحانه وتعالى ﴿ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾.
فالإسلام لا يعرف البطالة ولا يرضى بها ولا يسمح للمسلم أن يكون حملاً على كاهل الآخرين أو أن يقعد فارغاً من غير عمل أو أن يشتغل بما لا يعنيه يقول عمر رضي الله (مكسبة في دناءة خير من سؤال الناس) ويقول (إني أرى الرجل فيعجبني شكله فإذا سألت عنه فقيل لي لا عمل له سقط من عيني).
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (إن الله خلق الخلق ليعبدوه وإنما خلق الرزق لهم ليستعينوا به على عبادته) فالله جل جلاله وعز كماله لم يُعطينا ما أعطانا من الرزق لنلهو به ونلعب وننسى الدار الآخرة ونضيّع الهدف الذي من أجله خلقنا وإنما أعطانا الرزق لنستعين به على ذكره وشكره وحسن عبادته ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾.
الخطبة الثانية
إن الرزق الحقيقي هو رزق القلب والرضا بقسمة الله والقناعة بما أعطاك الله فمن رزق القناعة فقد رزق خيراً كثيراً ﴿ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ﴾.
فمن وسع الله له في رزقه فليحمد الله ولينسب الرزق إلى الله ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ ﴾ وليحذر من الاغترار بقوته أو فطنته أو عمله أو تجارته التي تجلب له هذه الأرزاق فإن هذه الوسائل هي أيضاً من رزق الله وليعلم إن كان مقيماً على معصية الله وكسب الحرام أن هذا من الاستدراج الذي قال الله عنه ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ يقول النبي صلى الله عليه وسلم (إذا رأيت الله عز وجل يعطي العبد من الدنيا ما يحب وهو مقيم على معاصيه فإنما هو استدراج ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم (فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون).
ومن لم يوسع له في رزقه فليحمد الله وليوقن بقول الله ﴿ وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ ﴾ ﴿ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴾ وقوله سبحانه ﴿ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا ﴾ يقول النبي صلى الله عليه وسلم (الأكثرون هم الأسفلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وكسبه من طيب) ويقول صلى الله عليه وسلم (يا معشر الفقراء ألا أبشركم إن فقراء المؤمنين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم خمسمائة عام).
وليعلم الفقير أن بعد العسر يسراً وبعد الفقر غنى فهذه الدنيا لا تبقي على أحد ولا يدوم على حال لها شان وليكثروا من دعاء الله سبحانه وتعالى وسؤاله ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
وليستعيذوا بالله من الفقر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في كل صباح ومساء (اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر لا إله إلا أنت) وليستعينوا بالله ويستشعروا في كل ركعة من ركعات صلاتهم معنى ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ فإن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها كما أخبر بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
وليحذروا من التكسب بالحرام فإن من الناس من يأتي بالرزق عبر الحرام إذا لم يأته الرزق عبر الحلال فمثله كشارب ماء البحر كلما ازداد شرباً ازداد عطشاً ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ وسيبارك الله له في رزقه الذي أعطي له فإن العبرة ليست بالكثرة وإنما العبرة بالبركة في الأموال والأحوال والعيال وليملئوا قلوبهم ثقة في الله سبحانه وتعالى ( قيل لامرأة مات زوجها لقد مات زوجك وانقطع دخلك ومصدر رزقك فقالت إني عرفته أكالاً ولم أعرفه رزاقاً ولئن مات الأكال فقد بقي الرزاق).
وليعلموا أن الرزق ليس محصوراً في المال وإنما كل النعم من رزق الله.
عباد الله:
إن من أعظم أسباب الرزق التوبة إلى الله والرجوع إليه سبحانه وتعالى واستغفاره من جميع الذنوب والخطايا الاستغفار الحقيقي الذي يستشعره المسلم بقلبه ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾.
كذلك من الأسباب المؤدية إلى كثرة المال والرزق صلة الرحم والمقصود بالرحم هم الأقارب ممن بينك وبينهم نسب من طريق أبيك أو أمك يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه).
كذلك من أسباب زيادة الرزق وبركته المحافظة على الصلاة يقول الله ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾.
شبكة الألوكة
تم النشر يوم
الأحد، 17 مارس 2013 ' الساعة