الأحد، 17 مارس 2013

افتقارنا إلى الله تعالى

 الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل


 الحمد لله ؛ خلق الخلق بقدرته ، وكتب آجالهم وأرزاقهم بحكمته ، نحمده حمد الشاكرين ، ونستغفره استغفار المذنبين ، ونسأله من فضله العظيم ؛ فله سبحانه في رمضان هبات وعطايا لا تنقضي ، وخزائنه عز وجل لا تنفد ، وهو القائل سبحانه ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ لو أعطى كل سائل مسألته ما نقص ذلك في ملكه إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ عظيم في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته ؛ فهو الملك الحق الكبير ، وهو العليم الخبير ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ عرف ربه تمام المعرفة ، وقدره حق قدره ، فتبرأ من كل حول وقوة إلا من الله تعالى ، ونصب في طاعته سبحانه ساجدا وقائما ، وفي عشر رمضان كان يعتزل الدنيا وما فيها، معتكفا في مسجده ، خاليا بربه ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه إلى يوم الدين.


 أما بعد : فأوصيكم - أيها الناس - ونفسي بتقوى الله عز وجل ؛ فإنها النجاة للعبد في الدنيا والآخرة ، وما قيمة الإنسان بلا إيمان ولا تقوى ﴿ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ .

أيها الناس: حاجة الخلق إلى الله تعالى لا يحيط بها الوصف ؛ إذ هم مفتقرون إليه في كل أحوالهم ، محتاجون إلى عونه في كل شؤونهم ..هو سبحانه موجدهم من العدم ، ومربيهم بالنعم ، وهاديهم إلى ما ينفعهم ، وصارفهم عما يضرهم ؛ فما قيمة الخلق بلا خالقهم.

والقرآن العظيم قد عرضت آياته لهذه المسائل ، وجلت تلك الحقائق ، وكثير من الناس يغفلون عنها وهم يقرئون القرآن ، وهذه الليالي هي ليالي القرآن ، فالمسلمون في كل الأقطار يتحرون فضلها ، ويلتمسون أجرها ، فيحيونها بالتلاوة والصلاة ، وأنواع الذكر والدعاء ، وحري بهم أن يتدبروا ما يقرئون ويسمعون من كلام الله تعالى في تلك الليالي المباركات؛ ليدركوا حقيقة فقرهم لله تعالى ، ويعرفوا ما له سبحانه من المنة والفضل عليهم ، فيقودهم ذلك إلى تعظيمه وذكره وشكره وحسن عبادته.

إن ربنا جل جلاله هو الذي خلقنا وهو غني عن خلقنا ، فلم يخلقنا سبحانه ليستكثر بنا من قلة ، ولا ليستقوي بنا من ضعف ، ولا ليحتاج لنا في أي شيء ؛ فكان خلقه لنا محض فضل منه سبحانه وتعالى تفضل به علينا ﴿ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ .

تخيل يا عبد الله أنك لم تخلق فماذا كان ؟! هل سيختل الكون بدونك ؟! وهل ستفتقر الموجودات إلى وجودك؟!
ألم تمض أزمان قبل وجودك ، والكون هو الكون ، ولم يفتقر أحد إليك حتى توجد من أجله ، وبعد موتك سيعيش من يعيش ، والكون هو الكون ، والناس هم الناس ، فلا افتقرت الموجودات إلى خلقك ، ولا اختل نظامها بموتك؟ وهذه الحقيقة نص عليها القرآن في غير ما موضع ﴿ أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا ﴾ ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا ﴾ نعم مضت أزمان قبل خلق آدم عليه السلام لم يكن للبشر فيا ذكر ؛ لأنهم غير مخلوقين ، ثم مضت أزمان أخرى بعد وجود البشر لم يكن الواحد منا فيها مذكورا معروفا ؛ لأنه لم يولد بعد ، فكان فضل الله تعالى علينا أن خلق أصل البشر ، ثم تفضل سبحانه علينا فجعلنا من نسل هذا البشر ، ولما بشر زكريا عليه السلام بالولد وتعجب أن يرزق الولد على الكبر وامرأته عاقر كان الجواب ﴿ قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ .
 
وسمع جبير بن مطعم وهو على الشرك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لسورة الطور قال: فلما بلغ هذه الآية ﴿ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ﴾ كاد قلبي أن يطير : رواه البخاري.

ثم بعد افتقارنا إلى الله تعالى في وجودنا بشرا سويا نفتقر إلى الله تعالى في بقائنا وبقاء جنسنا البشري ، والله عز وجل وهو الغني عنا كان ولا يزال قادرا على أن يهلكنا ويذهبنا ، وأن يبدلنا ببشر مثلنا ، بل هو القادر على أن يلغي جنسنا ، ويخلق خلقا آخر غيرنا ، يعبدون الله تعالى ولا يعصونه طرفة عين ، والقرآن ملئ بالآيات التي تثبت افتقارنا إلى الله عز وجل في استمرار بقائنا وبقاء جنسنا البشري ﴿ وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ ﴾ وفي سورة النساء ﴿ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ ذَٰلِكَ قَدِيرًا ﴾ وفي سورة إبراهيم عليه السلام ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ﴾ وفي سورة المعارج ﴿ فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ﴾ وفي سورة الإنسان ﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا ﴾ .
 بل جاء النص الصريح في القرآن على حقيقة افتقارنا إلى ربنا جل جلاله في بقائنا وبقاء جنسنا البشري ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ﴾ .

ونحن مفتقرون إلى الله تعالى في هدايتنا وإسلامنا وإيماننا ، وإلى عبادته سبحانه وتعالى ، فلولا الله تعالى لما كنا مسلمين ولا آمنا ولا صلينا ولا صمنا ولا عملنا صالحا ، ولا جانبنا المحرمات ، ولسنا أعلى البشر شأنا ، ولا أوفرهم عقلا ، ولا أشدهم بأسا ، ولكن الله تعالى منَّ علينا بالهداية ، وضلَّ عنها غيرنا ممن لم يهتدوا ﴿ قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ وقال سبحانه في الحديث القدسي : ( يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم )  

واستحق جل جلاله أن نحمده ونكبره على هذه الهداية ؛ كما جاء الأمر بذلك في سياق آيات مناسك الحج ﴿ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾ وفي سياق آيات الصيام ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ .

وكم من شخص ضلَّ الطريق إلى الإيمان فلا هادي له ، بل الكثرة الكاثرة من البشر هم أهل الضلال ، ومأواهم إلى النار، وربنا سبحانه جعلنا من المؤمنين وهم الأقلون ، واقروا آيات الهداية والضلال في كتاب الله تعالى تعرفوا قدر نعمة الله عليكم بالهداية ، وتدركوا مدى افتقاركم إليه سبحانه في الثبات على الإيمان ، فقد أنكر عز وجل على من أراد أن يهدي من أضله الله ، وصرح بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه فقال سبحانه ﴿ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴾ وفي الآية الأخرى ﴿ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ﴾ وفي آية ثالثة ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ .

ولا زلنا مفتقرين إلى الله تعالى في الديمومة على إيماننا ، والثبات على إسلامنا ، فلا ثبات لنا إلا بالله تعالى وعونه وتوفيقه ؛ ولذا ذكر سبحانه عن الراسخين في العلم أنهم يقولون ﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ﴾ والمصلي يتلوا في كل ركعة هذا الدعاء المبارك ﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ .
ونحن مفتقرون إلى الله تعالى في رزقنا فمن ذا الذي يرزقنا غير ربنا وخالقنا والمنعم علينا ، والخلق مهما كانت عظمتهم ، أو بلغت قوتهم ، أو علت مكانتهم لا يرزقون أنفسهم فضلا عن أن يرزقوا غيرهم ، فكلهم عيال على الله تعالى ، يسوق إليهم أرزاقهم حيث كانوا  ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَابَّةٍ لَّا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ۚ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ .

وقد جمع الله تعالى ذكر افتقارنا إليه سبحانه في الخلق والرزق في آيات كثيرة ؛ وذلك أنه لا قوام لنا ، ولا بقاء لجنسنا بعد أن خلقنا ربنا جلل جلاله إلا برزقه الذي رزقنا ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ وأمرنا سبحانه بدوام تذكر هذه النعمة العظيمة وعدم نسيانها ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ . 

ولو حبس عنا رزقه فمن يرزقنا ﴿ أَمَّنْ هَٰذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ﴾ فالرزق إنما يطلب ممن يملكه ويقدر عليه ، وربنا جل جلاله بيده خزائن السموات والأرض ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ ۖ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾.

إننا مفتقرون إلى الله تعالى في طعامنا وشرابنا وكسائنا وصحتنا وعلاجنا وفي كل شئوننا ، وقد قال الله تعالى في الحديث القدسي ( يا بنى آدم كلكم كان ضالا إلا من هديت ، وكلكم كان عاريا إلا من كسوت ، وكلكم كان جائعا إلا من أطعمت ، وكلكم كان ظمآن إلا من سقيت ، فاستهدونى أهدكم ، واستكسوني أكسكم ، واستطعموني أطعمكم ، واستسقوني أسقكم ) رواه أحمد بإسناد على شرط مسلم.

وفقرنا إلى الله تعالى دائم معنا ، ملازم لنا ، فكل حركاتنا وسكناتنا بتقدير الله تعالى وتدبيره ، أقر بذلك من أقر به ؛ فخضع لعبادة مولاه جل جلاله ، فكان من الناجين الفائزين ، وأنكره من أنكره ، فاستكبر عن عبادته سبحانه ، فكان من الهالكين المعذبين.

فاعرفوا لله تعالى حقه ، وأقروا بفضله ، وتبرئوا من كل حول وقوة إلا بالله تعالى ؛ فإن ذلك التبرؤ إلا من حول الله تعالى وقوته كنز من كنوز الجنة ؛ لأن فيه اعترافا بالفقر الدائم إلى الله تعالى ، روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه وهو يقول : ( لا حول ولا قوة إلا بالله ، فقال: يا عبد الله بن قيس ، ألا أدلك على كلمة هي كنز من كنوز الجنة: لا حول ولا قوة إلا بالله ) رواه الشيخان.

﴿ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ * وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم....
                          
الخطبة الثانية


الحمد لله رب العالمين ؛ أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، أحمده كما ينبغي له أن يحمد ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ قيوم السموات والأرض ، خضع الخلق لأمره ، وذلوا لسلطانه ، ولم يخرج أحد عن حكمه ﴿ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ كان يطيل قيام الليل حتى تتفطر قدماه ، قالت عائشة رضي الله عنها :( إن كان النبي صلى الله عليه وسلم ليقوم ليصلي حتى ترم قدماه أو ساقاه فيقال له ، فيقول: أفلا أكون عبدا شكورا ) صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أمهات المؤمنين ، وأتباعه إلى يوم الدين .
أما بعد : فاتقوا الله - عباد الله - فإنكم في ليال عظيمة ، تغفر فيها الذنوب ، وترفع الدرجات ، وتستجاب الدعوات ، وتقال العثرات ، ويعتق الله تعالى خلقا كثيرا من عباده من النار ، وفيها ليلة مباركة من أدركها وهو على عمل صالح فقبل الله تعالى منه فقد نال خيرا عظيما ، وحاز فضلا كبيرا ﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ .
 
أيها المسلمون : كان دأب الرسل إليكم ، وسبيل الصالحين قبلكم :الافتقار إلى الله تعالى ، والانطراح بين يديه ، والاعتراف له بالعجز والفاقة ، والضعف والحاجة ، والتبرؤ من الحول والقوة.

هذا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يتبرأ من أصنام قومه ، ويعلن فقره لله تعالى في كل شئونه الدنيوية والأخروية ﴿ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ﴾ .
اعتراف منه عليه السلام بفضل الله تعالى عليه ، وإعلان الفقر والحاجة إليه ، وتعداد نعمه عليه.

ونبيكم محمد صلى الله عليه وسلم كان أشد الناس فقرا إلى الله تعالى ، واعترافا بفضله ، وتعدادا لنعمه ، وتعلقا بجنابه ، وإلحاحا في دعائه  ، دعاه عليه الصلاة والسلام رجل من أهل قباء ، فلما طعم وغسل يديه قال: الحمد لله الذي يطعِم ولا يطعَم ، منَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا ، وكل بلاء حسن أبلانا ، الحمد لله غير مودع ولا مكافىء ولا مكفور ولا مستغنى عنه ، الحمد لله الذي أطعم من الطعام ، وسقى من الشراب ، وكسا من العري ، وهدى من الضلالة ، وبصر من العماية ، وفضل على كثير ممن خلق تفضيلا ، الحمد لله رب العالمين ) صححه ابن حبان والحاكم.

وكان عليه الصلاة والسلام يربي ذريته وأمته على دوام الافتقار إلى الله تعالى ، والإقرار بالحاجة إليه سبحانه في كل شيء ، روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابنته فاطمة رضي الله عنها: ( ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت : يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ) رواه الحاكم وصححه. 
 
فسيروا - رحمكم الله تعالى - سيرة الأنبياء والصالحين في افتقارهم إلى الله تعالى ، وإعلان الحاجة إليه ؛ فكم نحتاج إلى إحياء هذا الافتقار في القلوب ، بعد أن قست بالذنوب.

لنعلن يا عباد الله في هذه العشر المباركة فقرنا إلى الله تعالى، ولنلح عليه بالدعاء ، فما أفقرنا إلى ربنا جل في علاه ، وما أحوجنا إليه.

إننا مفتقرون إلى الله تعالى في صلاح قلوبنا ، وزكاء أعمالنا، واستقامتنا على ديننا ، وكل ذلك بيد الله تعالى إذ إن قلوبنا بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيف شاء.ومفتقرون إليه سبحانه في حفظ أنفسنا وأولادنا وأموالنا من الأمراض والحوادث والجوائح . ومفتقرون إليه سبحانه في دوام أمننا واستقرارنا ، وفي حفظ بلادنا وبلاد المسلمين من مشاريع الكفار والمنافقين.ومفتقرون إليه عز وجل في ديمومة النعم التي أنعم بها علينا ، فهو من يملك بقاءها وزوالها.

ما أفقرنا إلى الله تعالى في صلاح بيوتنا ، واستقامة أزواجنا وأولادنا على ما ينفعهم في الدنيا والآخرة.وما أفقرنا إلى عفو ربنا ورحمته ؛ لنعتق من النار ، ويكتب لنا الرضوان ، ولربنا تبارك وتعالى في هذه العشر المباركة هبات وعطايا فما أشد حاجتنا إليها.

فتعرضوا لنفحات ربكم ، بدعائكم وإلحاحكم ، وإقراركم بفقركم إلى ربكم ، ولا تغتروا بجاهكم وأموالكم وصحتكم ورغد عيشكم ، وما بسط عليكم من النعم ؛ فإن ذلك من أبين الدلائل على فقركم ؛ لأنكم وقعتم في أسرها ، ولا تطيقون فراقها ، ولا يملك دوامها لكم إلى الله تعالى ، فافتقروا إليه سبحانه يغنكم ، ولا تستغنوا بغيره فتهلكوا.
انطرحوا بين يديه في هذه الليالي المباركات خاشعين باكين، داعين مستغفرين ، تقرون بفضله ونعمته عليكم ، وتعترفون بجرمكم وتقصيركم في حقه ؛ فإن ربكم غني حميد ، جواد كريم ، إن علم صدقكم ، ورأى ذلكم ، وسمع تضرعكم ؛ غفر لكم ، وأعطاكم سؤلكم ، ودفع الشر عنكم  ﴿ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللّهُ ﴾ ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ . وصلوا وسلموا على نبيكم....  
 تم النشر يوم  الأحد، 17 مارس 2013 ' الساعة  9:01 ص


 
Toggle Footer